samedi 3 février 2024

الأزمة النقدية علاجها نقدي: دولرة لبنان بين صندوق النقد والبنك الدولي

 

الأزمة النقدية علاجها نقدي:

دولرة لبنان بين صندوق النقد والبنك الدولي

 

د. سهام رزق الله (بروفسوة في كلية العلوم الإقتصادية في جامعة القديس يوسف)

منذ عام 1994 نشر صندوق النقد الدولي ورقة بحثية نّد فيها خصوصية دولرة الإقتصاد اللبنانية منذ الأزمة النقدية في الثمانينات ولم يرى أفقا للخروج منها واستعادة الثقة بالعملة الوطنية على الرغم من عودة الاستقرار الأمني السياسي الإقتصادي للبلاد.. وشرح ذلك بما يعرف بعلم الإقتصايد بتخلّفية الخروج من الدولرة حتى لو زالت الأسباب التي أدّت إليها Hysterisis effect of Dollarization

اليوم جدد البنك الدولي تأكيد المسار التصاعدي للدولرة في لبنان حتى بعد تعافي الاقتصاد، علما أن لبنان عرف 22 سنة من تثبيت سعر الصرف دون انخفاض ملحوظ للدولرة. فما هي خصوصية الدولرة في لبنان وقراءتها من صندوق النقد والبنط الدولي؟ ولماذا المسار نحو الدولرة الشاملة؟

*************************

كما كتبها صندوق النقد الدولي عام 1994، جدّدها تقرير البنك الدولي الأخير لعام 2022 حول دولرة الإقتصاد اللبناني مؤكدا مسارها التصاعدي بغياب معالجة الأزمة النقدي وحتى لو تحقّق تعافي إقتصادي عام.. وقد جاء في خلاصة التقرير تحليالً لعملية الدولرة في لبنان، ويخلص إىل أن الأزمة الحالية ستعزز على الأرجح مستويات الدولرة المرتفعة، حتى بعد تحقيق التعافي. تاريخياً، أدت أزمات العملات المتعددة إلى ازدياد كبير في عملية الدولرة في البلاد، مع اتساع نطاقها بمرور الوقت للودائع والاقراض والدين العام. لم يتطور النظام املايل يف لبنان خارج القطاع املرصيف، وحال الافتقار إلى سوق رأس المال دون تطوير أدوات التنويع والتحوط التي كان من الممكن أن تساعد في تخفيض الدولرة أو عكس مسارها. ولا يزال تطوير أسواق رأس المال أمراً بعيد المنال في ظل الظروف الحالية، كما أنه سيتطلب تحقيق استقرار على صعيد الاقتصاد الكلي على المدى القصير وتبني منوذج نمو ٍ على المدى الطويل.

وشهد لبنان دولرة على نطاق واسع أثناء وبعده 15 عاما من الحرب الأهلية. تحلل هذه الورقة القوى الدافعة وراء دولرة الاقتصاد اللبناني ، باستخدام نموذجين اقتصاديين قياسيين ، بصرف النظر عن المحددات المتضمنة عادة في الدراسات التجريبية على ظاهرة الدولرة ، تأخذ بعين الاعتبار أيضًا محدودية  انعكاس عملية الدولرة. كان للحرب الأهلية اللبنانية التي دامت 15 عامًا تأثير مدمر على لبنان اقتصاد. لم يكن نصيب الفرد من الناتج القومي الإجمالي الحقيقي في عام 1990 سوى ثلث مستواه في عام 1975. العجز المالي المتزايد بسرعة ، بتمويل من طباعة النقد ، -لا سيما خلال منتصف الثمانينيات مع اشتداد الحرب تصاعد ضغوط الطلب المحلي والتضخم جنبا إلى جنب مع السريع واستمرار انخفاض قيمة العملة ، الليرة اللبنانية. بعد فوات الوقت، ساهمت هذه التطورات في زيادة الاعتماد على العملات الأجنبية لأغراض المعاملات وتخزين القيمة ووحدة الحساب ، والتي استمرت حتى بعد انتهاء الحرب الأهلية ، تأمين الاستقرار السياسي والحكومي ، واستقرار ظروف الاقتصاد الكلي ، بما في ذلك التضخم ، وإعادة تدفق كبير للأموال من الخارج.

وقد لوحظت أنماط مماثلة في مجموعة متنوعة من البلدان الأخرى حول العالم. مثل استبدال العملة على نطاق واسع والدولرة عادة ما يُفترض أنه ناتج عن التدهور الاقتصادي للبلد ، الوضع المالي والسياسي ، والذي ينعكس ، من بين أمور أخرى ، في ارتفاع وتسارع معدلات التضخم وانخفاض كبير في قيمة العملة المحلية عملة. خلال العقد ونصف العقد الماضي ، عدد من الدراسات التجريبية ركزت على هذه الظاهرة ، التي كانت منتشرة بشكل خاص ومستمر في أمريكا اللاتينية ، ولكنه حدث أيضًا بشكل أكثر اعتدالًا في البلدان النامية والصناعية الأخرى حول العالم ، من بينها وكذلك بعض دول الشرق الأوسط مثل مصر واليمن.

ومع ذلك ، فإن معظم نماذج استبدال العملات التقليدية تشير إلى أنه بمجرد استعادة الاستقرار الاقتصادي الكلي والسياسي ، فإن استخدام العملة الأجنبية تنخفض مرة أخرى. هذا ، ومع ذلك ، لم يحدث في الواقع في العديد من حالات البلد. لكن القليل فقط من الدراسات التجريبية حول العملة قد تعامل الاستبدال على وجه التحديد مع التخلفية في الخروج من الدولرة والعودة الى العملة الوطنية.

في حين أن دولرة الودائع كانت حاسمة للهيكل المالي الكلي لما بعد الحرب ، كذلك أدت إلى دولرة الودائع الى دولرة أخرى في الاقتصاد ، بما في ذلك دولرة الإقراض وكذلك الدين العام. يتم شرح هذه السببية بأن "دولرة الودائع تحفز الدولرة في القروض. تشجع المستويات المرتفعة من ودائع العملات الأجنبية لدى المصارف على إقراض المتعاملين المحليين بالعملة الأجنبية للمحافظة على مواضع الميزانية العمومية المتطابقة ، ويسري مفعول ذلك بنقل عبء سعر الصرف الى المقترضين في حال تدهور سعر صرف العملة الوطنية مقابل الدولار الأميركي.. أما في حال كان المقترضون عاجزين عن التسديد نظرا لكون مداخيلهم بالعملة الوطنية فيكون الخطر انتقل الى المودعين وهذا ما حصل فعليا في لبنان حيث كل من وظفّت المصارف الدولارات لديهم توقفوا عن تسديدها بالدولار (من الدولة وصولا الى المقترضين من القطاع الخاص)..

تحلل هذه الورقة محددات استخدام العملات الأجنبية في الاقتصاد اللبناني خلال العقدين الماضيين ويتناول بشكل صريح المثابرة في استخدامه. بينما النماذج العادية لإحلال العملة تفترض عملية استبدال متماثلة وقابلة للانعكاس تسمح بـتغيير غير مقيد في نسبة إحلال العملة في كلا الاتجاهين عندما تتغير المحددات الأساسية ، النهج المستخدم في ورقة صندوق النقد أخذ بعين الاعتبار على وجه التحديد قابلية التراجع المحدودة لـدولرة الاقتصاد اللبناني حتى بعد تطبيع نسبي الوضع السياسي والاقتصادي ، مما يعني ضمنا وجود غير متماثل لعملية الاستبدال أي صعوبة الخروج من الدولرة حتى بعد زوال أسباب حدوثها.

من المعلوم أن تم دعم الدولرة في لبنان بسبب ضعف أساسيات الاقتصاد الكلي. يتضمن بنية مالية كلية متكاملة من  مستويات عالية للديون ، وعجز مزدوج كبير (عجز مالي وعجز الميزان الجاري) بالاستناد الى قطاع مصرفي كبير الحجم وقوي. كانت احتياجات التمويل قبل الأزمة كبيرة ، يتم تمويلها بشكل أساسي من خلال قطاع مصرفي فاقت ودائعه  أكثر من أربعة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي. ضمان مصرف لبنان أن البنوك استمرت في جذب الودائع الأجنبية وذاك الاحتياجات التمويلية الإجمالية للقطاعين العام والخاص تم الوفاء به ، وبالتالي تمويل العجز المالي الكبير عجز الحساب المالي. وبغية جذب الودائع الأجنبية ، قدم مصرف لبنان شهادات بالدولار من الودائع ومختلف إعادة تمويل العملات الأجنبية المدعومة المخططات. لتلبية احتياجات الحكومة ، كان مصرف لبنان المشتري المتبقي للديون الحكومية في السوق الأولية والأسواق الثانوية. وقد  أرست هذه العوامل المختلفة  أرضًا خصبة لتدفقات رأس المال.

في تشرين الأول 2019 سقط نظام سعر الصرف القائم على الربط المرن لليرة اللبنانية بالدولار الأميركي، أي عمليا يعيش لبنان منذ ثلاثة سنوات بدون أي نظام سعر صرف لتفادي الجميع الانغماس بمسؤولية اختيار النظام البديل في ظل هيستيرا الدولرة الجزئية الشرسة وغير الرسمية التي تفرض نفسها على وقع فوضى الأسواق وتسحق كل من لا يصل الى يده سوى مدخول بالليرة اللبنانية.. ذلك بدلا من مواجهة الواقع من قبل السلطات الرسمية المعنية لحماية المساواة الاجتماعية بين المواطنين وحقّهم ببدل أتعاب ومداخيل بنفس العملة التي يتكبّدون فيها تدريجيا كل المصاريف، ولا سيما منهم العاملين في القطاع العام الذين أصبحوا عمليا على هامش النظام الاقتصادي-الاجتماعي ككل. السبب هو الخطأ الفادح التي تتم فيه مقاربة الأزمة من كل الزوايا إلا الزاوية التي يفترض البدء بها أي اعتماد نظام سعر صرف جديد قبل التطرق لكل بقية نواحي الأزمة وحتى الموازنة التي يستحيل تقديمها بأرقام حقيقية قبل بت نظام سعر الصرف والخيار النقدي للبلاد بما يتناسب مع دولرة تتخطى نسبة 80%.

بعد سقوط نظام الربط المرن لسعر الصرف ونفاذ الاحتياطي بالعملات الأجنبية الذي كان المصرف المركزي يعتمد عليه للتدخّل المستمر في سوق القطع، ونظرا لاستحالة اعتماد نظام سعر الصرف العائم في إقتصاد مدولر بمعدلات مرتفعة تفوق ال80%، لا يبقى علميا أمام لبنان سوى خيار اللجوء الى نظام الربط الصارم لسعر الصرف المتمثّل بالدولرة الشاملة و/أو "مجلس النقد" الرديف لها.

طبعا كان يمكن الانتقال التدريجي إلى نظام أكثر مرونة ومتماه مع مؤشرات ميزان المدفوعات، وطبعًا بأقل كلفة من العجز الفجائي عن التد ّخل وترك الساحة للسوق الموازي، لا سيما منذ بدء تسجيل تراكم عجوزات ميزان المدفوعات منذ العام 2011. إستنادا الى نموذج الأكوادور الأقرب الى عناصر الأزمة في لبنان مع الانتقال من الدولرة الجزئية المرتفعة نحو الدولرة الشاملة، تبيّن أن الشرط الاساسي لنجاح عملية الانتقال الى "الدولرة الشاملة" يتطلب أولا امتلاك المصرف المركزي ّ ل احتياطي بالعملات الأجنبية  بالدولار الأميركي يكفي لتغطية إلتزاماته تجاه القطاع الخاص، أي بشكل أساسي "القاعدة النقدية" ( (monetary base الأوراق النقدية المطبوعة من المصرف المركزي بالعملة الوطنية + احتياطي المصارف لدى المصرف المركزي.

عند الافتقاد الكلي والمزمن بالعملة الوطنية وطغيان التعامل بالعملة البديلة لا يعود الخيار بينها وبين البديل أي الدولار الأميركي في حال لبنان بل يصبح الخيار في آلية الربط الصارم المناسبة وكيفية الانتقال التدريجي اليها بغية نجاحها بأسرع وقت وأقلّ كلفة... أما إزاء "تردّد" البعض إزاء اعتماد الدولرة الشاملة، على الرغم من أن الاقتصاد اللبناني بات مدولرا بأكثر من 80% أي أن ما يعرف ب "السيادة النقدية" لم يعد يتخطى حدود ال20%، ثمة خيار رديف للدولرة الشاملة وهو "مجلس النقد" الذي يتفادى اعتماد رسميا "الدولار الأميركي" بحد ذاته كليا بدلا من الليرة اللبنانية بل اعتماد إسم عملة آخر ( الليرة أو إسم جديد) يحظى بتغطية الاحتياطي الموجود بالدولار الأميركي. ويبقى القول أن الأزمة النقدية لا يمكن معالجتها سوى انطلاقا من الشق النقدي واعتماد سعر الصرف المناسب ومن تؤكد الأدبيات الاقتصادية والتجارب الدولية وتقارية المنظمات الكبرى مثل صندوق النقد والبنك الدولي، حتى لو تم تعافي الاقتصاد تبقى الدولرة متزايدة عندما تنفلش في الاقتصاد وتصمد مرتفعة حتى بعد استقراره.. الدولرة الشاملة تفرض نفسها واقعا، الخيار المتبقي يكمن في آلية الاعتراف بها رسميا لوقف الفوضى في الأسواق وتأمين العدالة في الوصوال الى الدولار لجميع المواطنين.

___________________

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire