lundi 5 avril 2021

سعر الصرف ومخاطر البــلاد.. والسير عكس المؤشرات الاقتصادية

https://www.aljoumhouria.com/ar/news/587215/%D8%B3%D8%B9%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%B5%D8%B1%D9%81-%D9%88%D9%85%D8%AE%D8%A7%D8%B7%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D9%80%D9%80%D9%84%D8%A7%D8%AF-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%B1-%D8%B9%D9%83%D8%B3-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%88%D8%B4%D8%B1%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%82%D8%AA%D8%B5%D8%A7%D8%AF%D9%8A%D8%A9?utm_source=editor&utm_medium=web&utm_campaign=listnews 

سعر الصرف ومخاطر البــلاد.. والسير عكس المؤشرات الاقتصادية

د. سهام رزق الله

أستاذة مُحاضرة في كلية العلوم الاقتصادية لجامعة القديس يوسف


Tuesday, 30-Mar-2021 09:08

منذ سنوات وأجراس عوامل المخاطر تقرع من مختلف المؤشرات والتقارير الإقتصادية، ولا سيما منها تدهور التصنيف الإئتماني للبنان الذي كان يشير بالمباشر الى مخاطر عدم سداد الدولة اللبنانية لديونها بالدولار الأميركي أي الأوروبوندز. هذا يعني أن التساؤل عن ارتفاع مستوى الفوائد واستنزاف الاحتياطي بالعملات الأجنبية لـ»دعم» سعر الصرف على نفس المستوى 1507.5 على الرغم من تدهور ميزان المدفوعات خاصة منذ العام 2011 وزيادة المخاطر وانزلاق التصنيف السيادي للبنان لم يكن سوى تجاهل لهذه المخاطر والمؤشرات أو ضعف إلمام بمعانيها وتأثيراتها. فماذا تعني عوامل المخاطر بالنسبة الى قيمة العملة الوطنية وفعالية السياسة النقدية؟ وكيف يشكّل سعر الصرف مرآة لها؟ وكيف يمكن استنتاج أن لبنان سار بسعر الصرف عكس سير مخاطر البلاد والمؤشرات الاقتصادية ووضع الأصول الخارجية؟

غالباً ما يتم استيعاب مؤشرات مخاطر الدولة في هامش الفرق بين عائدات السندات السيادية للبلد المعني وعائدات سندات الخزانة الأميركية، كأنّ السؤال: ما المكافأة الإضافية المطلوبة لتغطية فرق المخاطرة بين الاثنين وتشجيع الاستثمار في ديون البلد المحتاج للدين؟ وتعكس مخاطر التخلف عن السداد أو مخاطر الائتمان احتمال أن يكون البلد المصدر لسندات الدين للدولة السيادية، غير قادر على الوفاء بالتزاماته بالعملات الأجنبية بالكامل وفي الوقت المحدد. أما سبب تصنيف المؤسسات الدولية للسندات بالعملات الأجنبية وليس السندات بالعملة الوطنية، فذلك لاعتبار أنّ صعوبة تسديد السندات بالعملة الوطنية يمكن معالجتها عبر اللجوء استثنائياً الى طباعة العملة الوطنية أو شرائها من المصرف المركزي لحل الأزمة ولو على حساب تكبّد مخاطر التضخّم. أما السندات بالعملات الأجنبية فلا يمكن للبلد معالجتها بالطريقة نفسها لعدم تمكّنه من طباعة العملة الأجنبية المصدّرة بها، خاصة أنه غالباً ما تكون البلدان النامية والمتعثّرة قد لجأت الى «دولرة» جزء من دينها العام سعياً من جهة لبيع سنداتها على الأسواق العالمية بالعملة الأجنبية ومن ناحية أخرى الى تخفيض خدمة دينها كون الفوائد على السندات بالعملة الأجنبية تكون أقلّ من الفوائد على السندات بالعملة الوطنية نظراً لفرق المخاطر بين العملتين. وطبعاً تكون الفائدة أقل لسند العملة الأقوى، أي في لبنان تكون الفائدة على الأوروبوندز أقل مما هي على سند الخزينة بالليرة اللبنانية.

 

إن مخاطر التخلف عن السداد هذه ليست المكون الوحيد لمخاطر البلد، لكنها المكون الرئيسي. تساعد المخاطر الأخرى، مثل مخاطر السوق أو مخاطر السيولة أو حتى المخاطر المالية أو السياسية، في تحديد مستوى المخاطر في بلد ما. وقد كان طبعاً للمخاطر السياسية وقعها الكبير على تدهور التصنيف السيادي للبنان في السنوات الأخيرة كما ذكرت علناً مجمل تقارير «فيتش»، «موديز» و»ستاندر أند بورز» كلما كانت تخفّض تصنيف سندات لبنان السيادية. ويعدّ مفهوم مخاطر الدولة أمراً بالغ الأهمية لأنه يعكس ثقة المستثمرين في الدولة. إن مستوى هذه المخاطر يحد من تدفقات رأس المال إلى البلاد، مما كان يزيد الضغط على ميزان الرساميل في لبنان، وبالتالي ميزان المدفوعات الذي لطالما كان يستند على تدفّق الرساميل للتعويض عن العجز التاريخي للميزان التجاري (أي الفرق بين التصدير والاستيراد). كما لا بد من التوقّف عند الفرق الشاسع بين المنحى التصاعدي للودائع بالعملات الأجنبية وصافي الأصول الأجنبية السنوية للقطاع المالي، لا سيما عندما يصبحان في منحيين متعاكسين بين تزايد سريع بالودائع بالعملات الأجنبية والتراجع في الأصول الأجنبية الصافية لدى القطاع المالي:

ويلاحظ وسط اختلاف مسار المؤشرات الخارجية، لا سيما منذ العام 2011 بشكل حاد أنّ التمسّك بالدفاع عن ربط سعر الليرة اللبنانية بالدولار الأميركي كان ما يزال على نفس المستوى:

 

 

ما هي محددات مخاطر الدولة؟

وفقاً للأدبيات الإقتصادية يرتبط مستوى الفارق بشكل إيجابي كبير بمؤشر الدين/ الناتج القومي الإجمالي وخدمة الدين، كما يرتبط بشكل سلبي بنسبة الاحتياطيات الأجنبية/ الناتج القومي الإجمالي والميل إلى الاستثمار. كما يعتبر نمو الناتج المحلي الإجمالي ونمو الصادرات من المحددات الهامة، كذلك الملاءة المالية وحجم الدين العام .كذلك يتبيّن أن أنظمة أسعار الصرف المختلفة لها تأثيرات مختلفة على فرق الأسعار واحتمال إصدار سندات الخزينة في أوقات أزمة الديون، وتستمر سياسة العملة في التأثير على فرق الأسعار كما هناك صلة قوية بين أزمات العملة والتخلف عن السداد في البلدان النامية.

 

عندما تقوم دولة ما بالدولار، يتم تحويل ديونها تلقائياً إلى دولارات. وقد تزداد مخاطر البلد التي كانت قائمة على الديون بالدولار حيث أصبحت الآن هي الخطر على ديون البلد ككل. ثانياً، الدولرة، وبدرجة أقل، أنظمة مجالس العملة، ترفض إمكانية تمويل نفسها من خلال التضخم. ويساهم فقدان دخل الأسرة في تعزيز قيود الميزانية المؤقتة للحكومة.

 

وقد يؤدي تقليص الموارد العامة إلى زيادة مخاطر التخلف عن سداد أدوات الدين الحكومية، وقد يؤدي إجبار المستثمر على الاحتفاظ بأصول العملات الأجنبية فقط إلى زيادة علاوة المخاطرة على هذه الأدوات. كما يمكن أن يؤدي نظام سعر الصرف المثبّت بتشدّد إلى مزيد من الجمود (الأجور والأسعار) مما قد يؤدي إلى تقلبات أكبر في الإنتاج وبالتالي إلى علاوة مخاطر أكبر على أصول الدولة الناشئة.

 

إن الاختيار بين تثبيت سعر الصرف أو السماح بتعويمه يعود إلى الاختيار بين المصداقية والمرونة. يفرض سعر الصرف الثابت انضباطاً شديداً على السياسة النقدية والمالية، وبالتالي لا يمكن توقّع استمرارية تثبيت سعر صرف عملة ما والحفاظ على قدرتها الشرائية وحمايتها من التضخّم إذا كانت السياسة المالية للبلاد قائمة على تراكم العجوزات المالية واللجوء السنوي الى المزيد من الاستدانة، لا بل الاستدانة من أجل تسديد فوائد الديون السابقة كما كان يحصل في لبنان في السنوات الأخيرة، ولا سيما منذ العام 2011 حين انقلب مسار الدين العام/الناتج المحلي من منحى انحداري الى منحى تصاعدي خيالي مع انكماش النمو الاقتصادي الى أقل من 1 % بعد أن وصل الى 8.25 % عام 2010 فضلاً عن ازدياد الدين العام بمعدّل 7 أضعاف عن النمو وانعدام الاصلاح المالي لا بل استمرار زيادة ثقل حجم القطاع العام وتكاليفه السنوية بما يفوق 40 % من الموازنة السنوية فيما معدّل العالمي لا يتخطى 10 الى 15 % من موازنات الدول عالمياً، علماً أن الغرض من ربط سعر الصرف بعملة دولة ذات معدل تضخم منخفض هو زيادة مصداقية ذلك البلد. وهكذا يصبح سعر الصرف ركيزة اسمية لتوقعات التضخم، إلا أن فعالية السياسة النقدية وكلفة تثبيتها لسعر الصرف مرتبطة بانضباط السياسة المالية والتخفيف من مختلف عوامل المخاطرة السابق ذكرها.

 

مخاوف الدول الناشئة من تحرير سعر الصرف

تحجم الدول الناشئة عن السماح بتعويم أسعار صرف عملاتها بحرية حتى لو ادّعت غير ذلك، نظراً لقلقها من التعويم. في كثير من الأحيان لا يكون الخوف من المرونة في حد ذاته، ولكن الخوف من تحركات معينة في سعر الصرف على وجه الخصوص. وبالتالي، فإن الخوف من التقدير يفسّر التراكم الهائل للاحتياطيات بالعملات الأجنبية فيها ومخاطر الانهيار عند اسنزاف هذه الاحتياطات.

 

الخوف من التعويم هو الإحجام عن السماح بتعويم سعر الصرف بحرية على الرغم أحياناً من الإعلان الرسمي عن التعويم. إذ يمكن أن يكون هذا التقلب مكلفاً للغاية بالنسبة للبلدان التي تكون فيها خيارات الإحتياط محدودة، حيث إنّ أسواق العملات الآجلة ليست سائلة وللتعويض عن عدم وجود سوق صرف آجل، يكون على السلطات النقدية توفير تحوّط غير رسمي عن طريق الحفاظ على استقرار سعر الصرف على المدى القصير والمتوسط. وبسبب الافتقار إلى المصداقية، لا يمكن لهذه البلدان الاستفادة من الميزة الأكثر أهمية للتعويم، وهي استقلال السياسة النقدية.

 

وبالتالي، بالنسبة للبلدان الناشئة لا يكون سعر الصرف المَرن وسيلة لامتصاص الصدمات الخارجية بل يمكن أن يكون تحرير سعر الصرف في هذه البلدان مصدراً محتملاً لعدم الاستقرار. الخوف من التعويم تبرره حقيقة أن التقلبات في أسعار الصرف أكثر تكلفة بالنسبة للبلدان الناشئة مما هي عليه بالنسبة للبلدان المتقدمة.

 

في حين تعتقد بلدان عديدة أنّ إعلان اعتمادها التعويم هو الطريقة الوحيدة لوجود سياسة سعر صرف نشطة مع تجنب المضاربة، يُخضع الإعلان عن إدارة متشددة لسعر الصرف السلطات النقدية للمراقبة والمحاسبة من السوق في حالة وجود سياسات اقتصادية غير منسقة، أي عدم توافق بين السياسات الاقتصادية المعتمدة والمؤشرات الماكرو-اقتصادية وقيمة سعر الصرف بما يهدد مصداقية سياسة سعر الصرف.

 

من هنا، تحجم بعض المصارف المركزية الناشئة بشكل خاص عن خفض أسعار صرف عملاتها، وذلك لسببين رئيسيين: آثار انتقال سعر الصرف إلى الأسعار والهشاشة المالية بسبب الدولرة الجزئية تماماً كما كان الحال في لبنان حيث كان الاصرار على استمرار تثبيت سعر الصرف أيّاً تكن حركة بقية المؤشرات الاقتصادية وعوامل المخاطرة...

 

سعر الصرف هو المعيار الطبيعي لتوقعات التضخم في الاقتصادات ذات الماضي التضخمي غير المستقر. وقد يؤدي السماح بانخفاض سعر الصرف إلى تجاوز هدف التضخم، ما يهدد مصداقية السياسة النقدية. في المقابل، قد يتطلب الدفاع عن العملة ارتفاعات كبيرة في أسعار الفائدة، ما قد يؤدي إلى خسائر في الإنتاج. وبالتالي، فإنّ المصرف المركزي الذي ينتهج سياسة استهداف التضخم يقلق بشأن ديناميكيات سعر الصرف. كما يساهم التضخم المنخفض للبنك المركزي باكتساب المصداقية، ما يقلل في النهاية الحاجة إلى الاستجابة لسعر الصرف، علماً أنّ البلدان الناشئة تعاني صعوبة الاقتراض بعملاتها في الخارج. ينتج عن هذا «دولرة» كبيرة لديونها (الدولار هو العملة الرئيسية في فئة القروض بالعملة الأجنبية).

 

كما أنّ الميزانيات العمومية للمؤسسات والمصارف وحتى الحكومة حساسة للغاية للتغيرات في سعر الصرف من خلال زيادة تكلفة الديون بالعملات الأجنبية، ما قد يؤدي إلى حالات إفلاس كبرى في القطاع الخاص. وتجعل دولرة الديون العملاء الاقتصاديين عرضة للصدمات الخارجية، مما يعقّد سلوك السياسة النقدية وسياسة أسعار الصرف. ويأتي انخفاض أسعار الفائدة لإنعاش النشاط في مواجهة مخاطر انخفاض سعر الصرف الذي يهدد استقرار المصارف والشركات المدينة بالعملات الأجنبية، علماً أنّ الاستخدام النشط لسعر الفائدة هو للحد من تحركات أسعار الصرف الذي يؤثر على تكلفة الاقتراض بالعملة المحلية.

 

وتكون غالبية التدخلات غير متكافئة، مما يعني أن المصرف المركزي يعارض بشدة الاستهلاك أكثر من معارضة رفع القيمة. يمكن العثور على تفسير هذه النتيجة في تأثير الاستهلاك على التكلفة الفعلية لخدمة الدين بالعملة الأجنبية ويبدو أن القناة المالية لسعر الصرف تهيمن على القناة الحقيقية للقدرة التنافسية في أهداف التدخل.

 

يبقى القول إن السؤال لم يعد الاختيار بين النظام الثابت أو المرن ولكن تحديد درجة إدارة سعر الصرف في ظل نظام عائم، أي الوزن، على سعر الصرف في السياسة النقدية. المزيد والمزيد من البلدان الناشئة تتبنى سياسة استهداف التضخم كمرتكز للسياسة النقدية مع وظيفة رد الفعل التي، بالإضافة إلى الاستجابة لفجوة الإنتاج والتضخم، تستجيب جزئياً لتحركات سعر الصرف.

منصة المصرف المركزي: الانتقال من تثبيت سعر الصرف الى تحريره؟

 

منصة المصرف المركزي: الانتقال من تثبيت سعر الصرف الى تحريره؟https://www.aljoumhouria.com/ar/news/585805/%D9%85%D9%86%D8%B5%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B5%D8%B1%D9%81-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B1%D9%83%D8%B2%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%86%D8%AA%D9%82%D8%A7%D9%84-%D9%85%D9%86-%D8%AA%D8%AB%D8%A8%D9%8A%D8%AA-%D8%B3%D8%B9%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%B5%D8%B1%D9%81-%D8%A7%D9%84%D9%89-%D8%AA%D8%AD%D8%B1%D9%8A%D8%B1%D9%87?utm_source=editor&utm_medium=web&utm_campaign=listnews

Monday, 22-Mar-2021 06:26

قبل الحرب اللبنانية وحتى العام 1990 كان لبنان يعتمد نظام القطع المَرن، أي أنّ السوق كان يحدد سعر الصرف وفق العرض والطلب للعملة الوطنية إزاء العملات الأجنبية. ومع مطلع التسعينات عمل المصرف المركزي على الضبط التدريجي «الزاحف» لسعر الصرف حتى اعتماد الربط الثابت لليرة تجاه الدولار منذ عام 1997 على أساس سعر وسطي 1507.5 ليرات للدولار الواحد مع هامش 1501-1514، قبل أن تنفجر الأزمة الاقتصادية عام 2019 وتترجم بظهور فوضى سوق القطع الموازي. اليوم، يحاول الجهاز المصرفي إعادة ضبط الأوضاع من خلال منصة سعر الصرف تعتمد السعر الأقرب للسوق والمتحرّك وفق حاجاته بما يعكس تمهيداً للعودة الى النظام المَرن، ما يحمل على طرح عدة أسئلة: ما هي الشروط الضرورية - من وجهة النظر التشغيلية - من أجل تحول ناجح من سعر الصرف الثابت إلى سعر مرن وفق السوق؟ ما هي السرعة التي يجب أن تكون عليها عملية الانتقال؟ وبأي ترتيب يتم وضع السياسات اللازمة لتحقيق المرونة؟

إلا أن الربط الثابت لليرة بالدولار وعلى أساس سعر صرف يرتكز بشكل أساسي على التدخّل المستمر للمصرف المركزي في السوق لضبط التوازن بين العرض والطلب من خلال استخدام إحتياطاته بالعملات الأجنبية، ما يتطلّب الحرص الدائم على تدفّق العملات الأجنبية والمحافظة على فائض في ميزان المدفوعات. من هنا لطالما اعتبر البعض أنّ سعر الصرف 1507.5 كان مرهقاً للمصرف المركزي وللاقتصاد الوطني، ويحتاج مؤشرات إيجابية على مستوى مختلف المؤشرات الماكرو-إقتصادية التي بقيت مقبولة عملياً حتى العام 2011 حين تبدّلت الأوضاع كلياً مع تدهور الناتج المحلي وحركة الاستثمار والرساميل والسياحة والمداخيل وبدأ سيناريو تراكم عجز ميزان المدفوعات، ما يعني خروج عملات أجنبية أكثر من دخولها سنويا. وبذلك اعتبر كثيرون أن التمسّك بالمحافظة على استقرار سعر الصرف نفسه، لا سيما منذ هذه المتغيّرات، بات «غير واقعي» ومكلف للمصرف المركزي ولمجمل الإقتصاد الوطني كونه لا يراعي فرق عوامل المخاطرة ومعدّلات الفوائد بين العملتين، كما أنه يتطلّب تحصينه بزيادة متواصلة بالاحتياطي بالعملات الأجنبية، وقد تبيّن الضغط على الموجودات الخارجية للمصرف المركزي ومجمل الجهاز المصرفي تحديداً مع تراجع هذه الموجودات بالمقارنة مع زيادة دولرة الودائع المصرفية، وما كانت «الهندسات المالية» التي تمكّنت من استقطاب دولارات من الخارج للمشاركة بها إلّا لتؤمّن شراء الوقت بانتظار إصلاحات لم تحصل، إن لجهة تخفيض خدمة الدين التي تكون على الأوروبوند أقل فوائد مما هي على سندات الخزينة بالليرة اللبنانية أو لجهة إعادة انتظام الدورة الإقتصادية وتصحيح الخلل في الميزان الخارجي باتجاه إعادة اجتذاب مصادر العملات الأجنبية (السياحة، الإستثمار، التوظيف المالي...).

 

أما وقد استنزفت على حدّ سواء مهل الإصلاح واحتياطات المصرف المركزي بالعملات الأجنبية وإمكانية الاستمرار بنظام ربط الليرة اللبنانية بالدولار الأميركي، والذي لم يحقّق أساساً أي تراجع كبير بمعدّل الدولرة التي لم تنخفض عن حدود الـ70 % من الودائع على الرغم من تثبيت سعر الصرف طيلة 22 عاماً ليعاود حالياً التحليق لأكثر من 80 % من الودائع مستعيداً معدّله إبّان أزمة الثمانينات، ولكن هذه المرة مع إضافة دولرة ثلث الدين العام. ومع فقدان القدرة على استخدام ودائع الناس بالعملات الأجنبية في المصارف، ومع تنامي سوق قطاع مواز يأمل المصرف المركزي ضبطه بإعادة دور التداول بالعملات الأجنبية الى منصة المصارف...

 

إلّا أن نجاح العودة عن ربط عملة وطنية بعملة أجنبية وإعادة تحرير تسعيرها في السوق بعد فترة تثبيت وتدخّل مركزي في سوق القطع له شروط بارزة، تبدأ بتأمين التوقيت المناسب المتزامن مع صدمة إيجابية تجعل من هذا الخيار نتيجة تلقائية مطمئنة الى ثبات سعر الصرف من دون الحاجة لتثبيته بتدخلات منتظمة في سوق القطع. ولا تنتهي بتوفّر عوامل مساعدة من مؤشرات اقتصادية مستقرّة تسمح بإعادة التعويم السلس من دون إثارة أي قلق أو بلبلة في الأسواق ومن دون إفساح مجال للمضاربة أو التلاعب بالأسعار لتسجيل الأرباح من فروقات العملة والتأثير الإقتصادي والنفسي من تقلّب التوقّعات. وأساس النجاح دائماً مرتبط بحرية الاختيار والتوقيت للانتقال نحو تعويم العملة، وليس الاضطرار على التعويم نظراً لفقدان إمكانية المحافظة على التثبيت لأن الثبات يحتاج أولاً الى الثقة والطمأنينة لقدرة السلطة النقدية على الحفاظ على الاستقرار النقدي ودور العملة الوطنية في تحديد الأسعار وتأمين التبادل التجاري والمحافظة على قدرتها الشرائية.

 

وقد قامت بعض البلدان بالانتقال من نظام سعر الصرف الثابت إلى نظام سعر الصرف المرن بشكل تدريجي وسلس، حيث تبنّت أنواعاً من أنظمة أسعار الصرف المتحرّك بهوامش معتدلة، والأنظمة الأفقية والزاحفة، والأنظمة العائمة والمُدارة بانتظام - قبل السماح للعملة بالتعويم بحرية. فيما كانت التحولات الأخرى فوضوية، أي أنها تتميز بانخفاض حاد في قيمة العملة.

 

تشير تجارب البلدان إلى أنّ هناك حاجة إلى 4 مكونات بشكل عام من أجل الانتقال الناجح إلى مرونة سعر الصرف:

• سوق عملات أجنبية يتمتّع بالعمق والسيولة.

 

• سياسة متماسكة تحكم تدخل البنك المركزي في سوق الصرف الأجنبي (ممارسة شراء أو بيع العملة المحلية للتأثير على سعرها أو سعر صرفها).

 

• أنظمة هوامش سعرية اسمية معتدلة بديلة مناسبة لتحل مكان سعر الصرف الثابت.

 

• أنظمة فعالة لمراجعة وإدارة تعرض القطاعين العام والخاص لمخاطر العملة.

 

يختلف التوقيت والأولوية الممنوحة لكل مجال من هذه المناطق بشكل طبيعي من بلد إلى آخر حسب الظروف الأولية وهيكلية الاقتصاد وتطوير سوق الصرف الأجنبي.

 

ويتطلب تطبيق نظام سعر الصرف المرن وجود سوق صرف أجنبي يتسم بالسيولة الكافية والفعالية للسماح لسعر الصرف بالاستجابة لقوى السوق، ويحد من عدد ومدة فترات التقلب المفرط والانحرافات عن سعر الصرف المتوازن (المعدل الذي يتماشى مع الأساسيات الاقتصادية للبلد).

 

بشكل عام، يتألف سوق القطع من سوق المصارف حيث تتم عمليات التداول الأساسية بين ممثلي الوسطاء المعتمدين (عادة المصارف والمؤسسات المالية الأخرى) مع بعضهم البعض ومع سوق التجزئة حيث يجري المكلّفون المعتمدون المعاملات مع العملاء النهائيين، مثل الأسَر والشركات.

 

وتُعرف سيولة السوق بهوامش عرض ضيقة نسبيا؛ انخفاض تكاليف المعاملات معدل دوران كافٍ للحد من تأثير التبادلات الفردية على الأسعار؛ أنظمة التداول والمقاصة والتسوية التي تسهل التنفيذ السريع للأوامر؛ ومجموعة واسعة من المشاركين الناشطين في السوق.

 

وثمة خطوات من شأنها أن تساعد أي دولة على تحسين عمق وسيولة سوق الصرف الأجنبي لديها:

 

• السماح ببعض المرونة في سعر الصرف (على سبيل المثال، ضمن نطاق تقلبات) لتحفيز نشاط الصرف الأجنبي. والعمل على تعزيز الإحساس بمخاطر سعر الصرف في اتجاهين - مخاطر ارتفاع قيمة العملة أو انخفاضها

 

• تقليص دور صانع القرار للبنك المركزي من خلال تقليص تبادلاته مع المصارف وتدخلاته لترك السوق للاعبين الآخرين في السوق. يجب ألا يتفاوض البنك المركزي مع العملاء غير الماليين.

 

• زيادة معلومات السوق عن مصادر واستخدامات العملات وعن اتجاهات ميزان المدفوعات لتمكين المشاركين في السوق من تطوير وجهات نظر موثوقة حول سعر الصرف والسياسة النقدية وأسعار صرف العملات بشكل فعّال.

ومن الضروري أن تكون للسلطات أيضا أنظمة معلومات ومنصات التداول التي توفر عروضا وعروضا مقابلة في الوقت الفعلي في سوق ما بين البنوك.

 

• إلغاء اللوائح التي تعيق نشاط السوق. قد تشمل الخطوات المهمة إلغاء متطلبات تحويل إيصالات النقد الأجنبي إلى البنك المركزي، والضرائب والرسوم الإضافية على معاملات الصرف الأجنبي، والقيود المفروضة على التجارة بين المصارف؛ توحيد سوق الصرف الأجنبي المقسم؛ وتخفيف القيود المفروضة على ضوابط رأس المال لإنعاش النشاط في سوق القطع. ومع ذلك، يجب تخفيف ضوابط رأس المال تدريجاً، توحيد وتبسيط تشريعات الصرف الأجنبي وتجنب التغييرات المتكررة في القوانين، وذلك لتحسين شفافية السوق وتقليل تكاليف المعاملات.

 

• تحسين البنية المجهرية للسوق من خلال تقليل تجزئة السوق، وزيادة كفاءة وسطاء السوق وضمان تسوية موثوقة وفعالة للأنظمة، علماً أن تطوير وتعميق سوق القطع يكون أكثر تعقيدا عندما يضطر بلد ما إلى التخلي عن سياسة التثبيت وربط سعر الصرف تحت الضغط بحيث لا يكون لديه الوقت للاستعداد المنظم لتعويم العملة.

 

وبالتالي، فإنّ السلطة التي تنتقل إلى نظام مرن يجب أن تصوغ سياسات بشأن أهداف وتوقيت ومقدار التدخلات، علماً أنه قد يصعب اكتشاف الاختلالات ولا يوجد إجماع على منهجية لتقدير توازن سعر الصرف. المؤشرات الأكثر استخداما - القيمة الاسمية وأسعار الصرف الفعلية الحقيقية والإنتاجية ومقاييس أخرى للقدرة التنافسية وشروط التبادل التجاري وميزان المدفوعات وفروق أسعار الفائدة وأسعار الصرف في السوق الموازية - وعادة، لا يسمح ذلك لصانعي القرار بتقييم درجة الاختلال بدقة لمساعدتهم على تحديد توقيت وكمية التدخل.

 

وحتى عندما يكتشف صانعو السياسة اختلالاً في سعر الصرف أو تقلباً مزعزعاً للاستقرار، فقد لا يصحح تدخل البنك المركزي المشكلة دائماً. إن الأدلة التجريبية على فعالية التدخل في التأثير على سعر الصرف مختلطة، ويبدو تأثير التدخل على مستوى سعر الصرف قصير الأمد. أظهرت الدراسات التجريبية أيضاً أن التدخّل يميل إلى زيادة تقلب سعر الصرف بدلاً من تقليله. وبالتالي، فإنّ تقلبات أسعار الصرف قصيرة الأجل قد لا تبرر التدخل.

 

يبقى القول انّ الهدف الرئيسي للسياسة النقدية لأي بلد يكمن في التحكم في السيولة النقدية للمحتفظة على قيمة العملة الوطنية وقدرتها الشرائية، إن لجهة ضبط التضخّم أو لجهة استقرار سعر الصرف بما ينسجم مع مستوى مختلف المؤشرات الماكرو-إقتصادية في البلد. وقد أدت صعوبة تطوير ربط اسمي بديل موثوق به للعديد من البلدان إلى الابتعاد ببطء عن ربط سعر الصرف من خلال اعتماد نظام زاحف كنظام وسيط أثناء انتقالها إلى ربط اسمي آخر، أو التعويم التدريجي... فهل يكون لبنان على خطى العودة الآمنة نحو سعر الصرف المَرن بأقل بلبلة في الأسواق في ظل أشد الأزمات الاقتصادية التي يشهدها لبنان؟ وأي مدى زمني مرتقب لبدء تلمّس النتائج؟

الهندسات المالية لـ"مصرف لبنان": ما لها وما عليهاMonday, 15-Mar-2021 06:28 اقتصاد

 الهندسات المالية لـ"مصرف لبنان": ما لها وما عليها

Monday, 15-Mar-2021 06:28

 https://www.aljoumhouria.com/ar/news/584342/%D8%A7%D9%84%D9%87%D9%86%D8%AF%D8%B3%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%A7%D9%84%D9%8A%D8%A9-%D9%84%D9%80%D9%85%D8%B5%D8%B1%D9%81-%D9%84%D8%A8%D9%86%D8%A7%D9%86-%D9%85%D8%A7-%D9%84%D9%87%D8%A7-%D9%88%D9%85%D8%A7-%D8%B9%D9%84%D9%8A%D9%87%D8%A7?utm_source=editor&utm_medium=web&utm_campaign=listnews

إنّ الدولرة القوية التي عاشها لبنان منذ أزمة الثمانينات والتسعينات جعلت أي أداة استقرار قائمة على التحكم في عرض النقود بالليرة اللبنانية غير فعالة، وأدت إلى اعتماد الاستقرار على أساس تثبيت سعر الصرف بشكل مستمر عبر تدخّل مصرف لبنان فيسوق القطع... إلا أن الحفاظ على هذا «الاستقرار» كان يتطلب دائما توفير المزيد من احتياطي العملات الأجنبية لمصرف لبنان للحفاظ على هامش تدخله في السوق... الأمر الذي تطلّب جذب ما يكفي من الدولارات من الخارج وتحقيق فائض في ميزان المدفوعات (حيث تقليدياً فائض ميزان الرساميل يفترض أن يعوّض عجز الميزان التجاري في بلد مستورد رئيسي)... ومع تراكم عجز ميزان المدفوعات وزيادة الهوة بين الدولرة المتزايدة للودائع والموجودات المتناقصة بالدولار، ومع تلاقي الحاجة لشراء الوقت وتلاقي هدف المالية العامة لجهة تمويل عجوزاتها وتخفيض خدمة الدين العام عبر دولرة جزء منه، وهدف المصرف المركزي بزيادة احتياطه بالعملات الأجنبية وهدف المصارف بإيجاد توظيفات مربحة و»موثوقة» حصلت سلسلة «الهندسات المالية»... فما هي آليّاتها؟ وأي دور وأي نتائج لكل من الأطراف المعنية بتنفيذها؟

بعد تجربة التضخّم المفرط وانهيار سعر صرف الليرة في الثمانينات واتجاه العملاء الاقتصاديين تلقائياً في لبنان نحو الدولرة الحرة الجزئية غير الرسمية ولو بمعدّل مرتفع تخطى حينها الـ80 % من الودائع، ثم انخفض بعد تثبيت سعر الصرف تدريجاً لكن من دون ان ينخفض عن عتبة الـ67 % من الودائع ليعاود اليوم تخطي حدود 80 %. كان لا بد من اعتماد سياسة ضبط سعر صرف الليرة إزاء الدولار المستخدم الى جانبها بشكل مواز في السوق، لا بل أنشئت غرفة مقاصة للشيكات بالدولار واعتمدت المصارف لسنوات تعبئة أجهزة الصراف الآلي بالدولار الأميركي الى جانب الليرة اللبنانية مع السماح بالتحويل التلقائي بين حسابات الليرة والدولار والسحب النقدي بأي من العملتين، خلافاً لما هي الحال في مختلف بلدان العالم التي يقتصر فيها سحب الصراف الآلي على العملة الوطنية التي يمكن التحكّم بطباعتها. وذلك في ظل تَنامٍ غير مستدام للدين العام الذي أصبح أكثر من ثلثه مدولراً، ويعاني تراجعاً متتالياً لتصنيفه الائتماني من المؤسسات الدولية بما يعكس التشكيك بالقدرة على التسديد الكامل عند الاستحقاقات ويتطلّب زيادة معدلات الفوائد للتعويض عن المخاطرة، ويضاف اليه تدهور في ميزان المدفوعات والأصول الخارجية للنظام المصرفي وضعف احتياطيات المصرف المركزي بالدولار الأميركي بعد جهود صموده منذ انقلاب الأوضاع في لبنان والمنطقة منذ العام 2011 واستمرار مصرف لبنان بـ»دعم» سعر صرف الليرة 1507.5 وتأمين الاستيراد على أساسه بكميات تبيّن أنها كانت تفوق حاجة السوق المحلي بما كان يزيد الضغط على استنزاف الاحتياطي الأجنبي أكثر فأكثر.

 

وللتذكير فقد بلغ عجز ميزان المدفوعات في نهاية عام 2019 حوالى 4,351 ملايين دولار أميركي، بينما بلغ العجز المتراكم منذ عام 2011 14,515,9 مليون دولار أميركي، باستثناء عام 2016 الذي تميز بشكل استثنائي بفائض في ميزان المدفوعات نتيجة عمليات «الهندسة المالية» المنفذة من قبل مصرف لبنان كوسيط بين الخزينة العامة والمصارف التجارية.

 

وقد اعتمدت هذه العمليات على تبادل حصة متزايدة من سندات الخزينة بالليرة اللبنانية التي يحتفظ بها القطاع المصرفي مقابل سندات اليوروبوندز من خلال مصرف لبنان، والتي سعت إلى جذب المزيد من الدولارات لتجديد احتياطياتها من العملات الأجنبية وتأخير اندلاع الأزمة قدر الإمكان... انتهت هذه العمليات بزيادة «تغطيس» المصارف اللبنانية في تمويل الدولة عن طريق شراء سندات اليوروبوندز الخاصة بها باستخدام الودائع بالعملات الأجنبية لعملائها، مما يفسر الانتشار الحالي للأزمة في القطاع المصرفي وتوقفه عن توفير الدولارات لمودعيه.

 

وقد أدت الهندسة المالية التي تم تنفيذها في عام 2016 إلى نتائج ملحوظة لمختلف اللاعبين المعنيين من الخزينة العامة والمصرف المركزي الى المصارف التجارية. وأخّرت ظهور معالم أزمة تراكمت مؤشراتها حتى انفجرت بوجه المودعين دفعة واحدة في خريف 2019 من دون التنبه للمراحل السابقة...

 

وقد بدأت عمليات «الهندسات المالية» كخيار غير تقليدي للسياسة النقدية في لبنان منذ العام 2016 لتؤدي الى النتائج التالية:

بداية تحسين الاحتياطي الإجمالي لمصرف لبنان من النقد الأجنبي من 35.1 مليار دولار في أيار 2016 قبل عمليات الهندسة المالية في نهاية تشرين الأول 2016 إلى 40.6 مليار دولار بعد تحقيقها (بين الوساطة لبيع اليوروبوندز وأيضاً إصدار وبيع شهادات إيداع من المصرف المركزي للمصارف لاجتذاب المزيد من ودائع الدولار الموظّفة لديها)، لزيادة إمكانية التدخل في سوق الصرف الأجنبي للدفاع عن استقرار سعر الصرف واتباع سياسة تثبيت الليرة مقابل الدولار الأميركي.

 

كما أدى هذا الخيار الى إعادة رسملة المصارف وفقاً للمعيار الدولي IFRS9 نظرا لأن مصرف لبنان أصدر تعميما يطالب المصارف التجارية بتوجيه العوائد التي حققتها الهندسة المالية نحو زيادة رساميلها وتحسين احتياطيات المصارف والالتزام بالمعيار الدولي للتقارير المالية IFRS9 الصادر في كانون الثاني 2018، والذي يتطلب من المصارف تقدير وتسجيل مخصصات الخسائر المتوقعة على الذمم المدينة من لحظة التزامها بإقراض الأموال أو الاستثمار في أداة مالية، مثل السندات. كما يطلب مصرف لبنان من المصارف التجارية تكوين احتياطيات بمعدل 2 % من الأصول التي تحمل مخاطر الملاءة المالية.

 

وسمح أيضا للمصارف التجارية بالوصول إلى نسبة حقوق الملكية التي فرضها عليها مصرف لبنان نهاية عام 2018، وهي 15 % وهي تتجاوز توصيات Bale3 التي طلبت زيادة هذه النسبة من 8 % إلى 10.5 % من المشكوك في تحصيلها. أصول من بداية عام 2019.

 

ومع ذلك، فإن المصارف تخاطر بأن تجد نفسها في حالة فخ السيولة إذا لم تكن قادرة على استخدام العوائد المحققة لمنح القروض ويتعين على الخزينة العامة إصدار سندات عند الاستحقاقات لفترة طويلة لامتصاص هذه السيولة الزائدة. وبالتالي لا يكون التسهيل الكمي المطبق Assouplissement quantitatif أكثر من مجرد تبادل بسيط للسندات الحكومية.

 

كذلك مع زيادة السيولة بالعملة الوطنية، أتاحت الهندسة المالية ضمان الاحتياجات التمويلية للقطاعين العام والخاص في ظل أفضل الظروف بفضل زيادة الودائع بنسبة 2.5 % لتصل إلى الحد الأدنى. معدل الزيادة السنوي 7.2 % في نهاية عام 2016. وهكذا زادت الودائع المصرفية من 159 مليار دولار أميركي في نهاية عام 2015 إلى 172 مليار دولار أميركي في نهاية عام 2016. لتفوق ما يوازي 180 مليار دولار منها 120 مليار دولار فعليا بالدولار الأميركي قبيل انفجار الأزمة عام 2019. بالإضافة إلى ذلك، مكّنت السيولة الفائضة بالليرة اللبنانية المصارف التجارية من زيادة محفظة قروضها خاصة من خلال القروض المدعومة للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة والقطاعات الاقتصادية الهشة وقروض الإسكان.

 

كما تم تحسين وضع المالية العامة من خلال تخفيض خدمة الدين العام. وخفضت الهندسة المالية أسعار الفائدة على أذون الخزانة لأجل 5 سنوات من 6.74 % إلى 5 %. كما خفض مصرف لبنان أسعار الفائدة على شهادات الإيداع طويلة الأجل لحسابات التوفير بالليرة اللبنانية من 9 % إلى 8.4 %. وشجع هذا التحسن في وضع المالية العامة المؤسسات المالية الدولية على الاكتتاب بسندات اليوروبوندز. من هناك، ساعدت الشركات العسكرية والأمنية الخاصة بالهندسة المالية على تعزيز المراكز النقدية والمالية دون رفع أسعار الفائدة على سندات الخزانة بالليرة اللبنانية أو سندات الخزانة بالدولار الأميركي.

 

وقد أدت الهندسة المالية إلى نجاح مشروع قانون الخزانة الجديد بالدولار الأميركي. وإذ يدرك أن مصرف لبنان مسؤول عن الترويج لسندات اليوروبوندز للخزينة العامة تطبيقاً للمواد 70 إلى 97 من قانون النقد والتسليف التي تمنحه في مهمته دور الحفاظ على الاستقرار الاقتصادي والترويج المجاني للقروض العامة داخلياً وخارجياً، يسمح مصرف لبنان للمصارف التجارية بخصم شهادات الإيداع بالدولار الأميركي بشرط الاكتتاب بنفس المبلغ في أذون الخزانة بالدولار الأميركي، فضلاً عن تحسين وضع ميزان المدفوعات من خلال تطبيق إجراءات من شأنها زيادة الطلب المحلي والإنتاجية وبالتالي زيادة النمو والتنمية. وبلغ تدفق رأس المال الناتج عن هذه الهندسة المالية 4.2 مليارات دولار أميركي في نهاية عام 2016. وتحول العجز التراكمي الذي بلغ 1.7 مليار دولار أميركي في أيار 2016 إلى فائض قدره 1.35 مليار دولار أميركي بنهاية عام 2016.

 

وقد كانت الزيادة في التضخم من 0 % إلى 2 % في أيلول 2016 مناسبة تماماً للنتائج المرجوة للسياسة النقدية لمصرف لبنان. كما لوحظ تحسن في تصنيف لبنان بعد عمليات الهندسة المالية الأولى لمصرف لبنان، مما أدى إلى انتقال التصنيف السيادي للبنان لدى الوكالة الدولية Standard and Poor›s من سلبي إلى مستقر.

 

كذلك استفادت الدولة من تطبيق معدل ضريبة قدره 15 % على العوائد التي حققتها المصارف التجارية، بقيمة 5 مليارات دولار أميركي، وبالتالي إيرادات ضريبية بقيمة 1.2 مليار ليرة لبنانية أو ما كان يوازي 800 مليون دولار أميركي من هذه العوائد الاستثنائية.

 

يلاحظ أنّ مصرف لبنان طلب من خلال ثلاث مذكرات أن يخصص جزء من هذا الدخل لإعادة رسملة المصارف بما يقارب 2.4 مليار دولار. ومع ذلك، فإنّ هذا لا يعني أنّ المصارف سجلت أرباحا بقيمة الفارق أي 2.6 مليار دولار لأنه من أجل جذب المزيد من العملات الأجنبية، كان على بعض المصارف إطلاق منتجات مالية جديدة تشارك فيها جزءًا من الأرباح مع عملائها ولا يتأثر فيها مصرف لبنان.

 

يتم وضع حوالى نصف هذه السيولة بالليرة اللبنانية على شكل ودائع طويلة ومتوسطة الأجل لدى مصرف لبنان، على أن يتم تقسيم الباقي بين مبلغ مخصّص لتقديم قروض للقطاع الخاص ومبلغ يوضع في حساب خاص لدى المصارف يمكن للحكومة الاقتراض منه بنسبة 5 % لمدة 5 سنوات، أي بمعدل نقطتين أقل من سعر السوق وبحيث لا يكون هناك فائض في السيولة يحمل مخاطر عالية للتضخم.

 

وتؤكد الهندسة المالية فرضية نجاح السياسات النقدية غير التقليدية في أوقات الأزمات في دعم الاقتصاد ككل وضمان التمويل اللازم للاستقرار الاقتصادي والاجتماعي، مع اتّباع السياسات النقدية التقليدية.

 

يبقى القول إنه إلى جانب فوائد اللجوء الاستثنائي للسياسات النقدية غير التقليدية، إلا أنّ الهندسات المالية لمصرف لبنان لم تخل من القيود والمخاطر.

 

وقد تبيّن أن ضخ السيولة والحاجات التمويلية للقطاع العام وإقباله على تقديم الحوافز للحصول عليها قد شجع المصارف على التمادي في المخاطرة التي ضغطت بدورها على الاستقرار النقدي. وقد أصبح الجهاز المصرفي الشريك الرئيسي المموّل للدولة من خلال سندات الخزينة، إن بالليرة اللبنانية أو بالدولار الأميركي، فاشتبكت أوضاع المالية العامة المتدهورة أساساً بفعل عجزها ومديونيتها بوضع المصرف المركزي الساعي لإدارة أزمة استنزاف احتياطاته الخارجية والتمسّك باستقرار السياسة النقدية وربط لليرة بالدولار مهما كان الثمن، ووضع القطاع المصرفي الذي أصبح مصدر التمويل الرئيسي لدولة يتدهور تصنيفها مما يؤثر على جودة ميزانيات مموّليتها وإمكانية استرداد أموالهم، والبرهان انّ عامل المخاطرة كانت تعكسه بوضوح معدلات الفوائد بعد أن باتت كلها تلحق بفائدة سندات الدولة، حيث يفترض أن يكون التوظيف «الآمن» فكان التوظيف «الأخطر».. هنا مصدر الخلل.. ومن هنا تبدأ المعالجة الصحيحة.

ماذا بين ثبات الدولرة وتثبيت سعر الصرف؟Tuesday, 16-Feb-2021

 

ماذا بين ثبات الدولرة وتثبيت سعر الصرف؟

Tuesday, 16-Feb-2021 06:18

 التhttps://www.aljoumhouria.com/ar/news/578718/%D9%85%D8%A7%D8%B0%D8%A7-%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D8%AB%D8%A8%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84%D8%B1%D8%A9-%D9%88%D8%AA%D8%AB%D8%A8%D9%8A%D8%AA-%D8%B3%D8%B9%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%B5%D8%B1%D9%81?utm_source=editor&utm_medium=web&utm_campaign=listnews

منذ نقطة التحول الكبرى في السياسة النقدية في لبنان منذسعينيات، أظهرت خيارات مصرف لبنان مخاوف ملحوظة من إعادة إنتاج النمط الذي كان سائدًا في عام 1987، عندما تجاوز التضخم المفرط 487%، وانطلق مسار الدولرة كخيار حرّ للقطاع الخاص سعياً للحفاظ على قدرته الشرائية، ثم تراجع تدريجيًا مع السياسة النقدية التقييدية عام 1992. ومع تثبيت سعر الصرف منذ 1997، انتظر الجميع أن تتراجع الدولرة في تلك الفترة .. إلّا أنّ الدولرة الجزئية بقيت مرتفعة، ومع انفجار الأزمة المالية-النقدية-المصرفية في الربع الأخير من العام 2019 ازدادت أكثر لتلامس 80% من الودائع اليوم.. هل فعلاً كانت الدولرة ردة فعل اختيارية ازاء انهيار سعر الصرف في الثمانينيات؟ وبالتالي ما سرّ ثبات الدولرة رغم سنوات من تثبيت سعر الصرف؟ وأي خيارات ممكنة اليوم؟

 

في الثمانينيات، ترافق انهيار سعر الصرف الوطني مع ارتفاع سعر الدولار من 2.25 ليرة لبنانية عام 1972 إلى أكثر من 2850 ليرة عام 1992، قبل أن ينخفض تدريجياً، من نهاية عام 1992 حتى تمّ تثبيته عند 1507.5 ليرة منذ عام 1997... وذلك مع ارتفاع معدل دولرة الاقتصاد من حوالى 25% من الودائع عام 1972 إلى أكثر من 86% عام 1987، لينخفض تدريجياً الى حدود 67% في سنوات الاستقرار، ثم ارتفاعه ليصبح اليوم حوالى 80%.

 

إلّا انّ خصوصية الأزمة الحالية تختلف أيضًا عن الثمانينيات، إذ لم تعد دولرة الودائع تحمي أصحابها، بعد أن وظفت المصارف أكثر من ثلثيها بين الاكتتاب بسندات خزينة الدولة بالدولار والأوروبوند، واشترت بالجزء الأكبر شهادات إيداع مصرف لبنان بالدولار، لتعزيز إحتياطاته بالعملات الأجنبية... علماً أنّ الودائع بالدولار التي بلغت 120 مليار دولار، أي مرة ونصف من الناتج المحلي الإجمالي للبنان في بداية العام 2019 قبل اندلاع الأزمة، تراجعت الى حوالى 112 مليار دولار حالياً، بعد سحب المودعين كميات كبيرة منها بين شراء ذهب وتسديد ديون وشراء عقارات أو سيارات، وللاحتفاظ بالسيولة بالدولار والليرة، تحسباً للمزيد من شح النقد..

 

وكان القطاع المصرفي يحتفظ بـ 15 مليار دولار على شكل سندات يوروبوند، و 70 مليار دولار مع مصرف لبنان، بين احتياطي إلزامي على الودائع بالعملات الأجنبية (15% من الودائع بالعملات الأجنبية أو ما يقرب من 18 مليار دولار أميركي) وشهادات إيداع بالدولار (قدّرتها مؤسسة بلومبرغ بـ 52.8 مليار دولار)... بينما حمل مصرف لبنان سندات يوروبوند مقابل 5.7 مليارات دولار.

 

في العام 1987 كان الدولار متاحًا، وكان الطلب عليه يتزايد بسبب التضخم ، وكان سعره الرسمي يتزايد بالتوازي. في المقابل، اليوم الدولار غائب وسعره الرسمي ثابت والسوق الموازية تغذي التضخم ... ولا يمكن تصور الخروج من الأزمة بما حدث عام 1992 باعتماد قرار تثبيت سعر الصرف ، لأنّ الدولارات اللازمة غير متوفرة هذه المرة.

 

في الثمانينيات، وافق المصرف المركزي والمصارف اللبنانية على اختيار القطاع الخاص اللبناني اعتماد الدولرة الجزئية وغير الرسمية، عن طريق الاختيار الحرّ للعملاء الاقتصاديين، الذين فقدوا الثقة في العملة الوطنية... ولم «تضفِ» السلطات النقدية الطابع الرسمي على استخدام الدولار كعملة وطنية لدفع الضرائب والرسوم وتنظيم إجراءات الإدارة العامة ... إلّا أنّ مصرف لبنان أنشأ غرفة مقاصة للشيكات بالدولار وملأها ماكينات الصرف الآلي (ATM) عن طريق العملتين: الليرة اللبنانية والدولار الأميركي.


 

عملياً، من الطبيعي أن يكون معدّل الفائدة على الودائع بالعملة الوطنية أعلى من معدل الفائدة على الودائع بالدولار في البلد المدولر جزئياً، نظراً لفارق عامل المخاطرة، كذلك من الطبيعي أن يكون معدل الفائدة على الودائع بالدولار في البلد المدولر، أعلى مما هي عليه نفس الودائع بالدولار، لو تمّ توظيفها في أسواق أخرى خارجية أكثر استقراراً، نظراً لعامل المخاطرة في البلد المدولرة..

 

واذا كانت مبدئياً الدولرة الجزئية مفترقاً للاتجاه إما صوب استعادة الثقة بالعملة الوطنية أو الانغماس أكثر بالدولرة حدّ التخلّي عن العملة الوطنية أو السعي لنظام استقرار للعملة الوطنية، مربوط بتثبيت سعر الصرف، إما برط العملة الوطنية بالعملة الأجنبية أو باعتماد مجلس نقد أو مجلس مصرفي ... ويُلاحظ أنّ لبنان عرف ثباتاً مرتفعاً في معدّلات الدولرة، على الرغم من مرور 22 سنة من تثبيت سعر الصرف بربط الليرة اللبنانية بالدولار... تراجع معدل الدولرة قليلاً ليعاود ارتفاعه مع كل فترة اهتزاز الاستقرار واضطرار المصرف المركزي لاستنفاد إحتياطه بالعملات الأجنبية، ومحاولة تأجيل انفجار الأزمة عبر «الهندسات المالية». هذه العمليات النقدية غير التقليدية خفّضت خدمة الدين للدولة، كون معدل الفائدة على اليوروبوند أقل مما هو على سندات الخزينة بالليرة. كما مكّنت الخزينة من الحصول على ضرائب تخطّت ملياراً ومئتي مليون ليرة (توازي 800 مليون دولار حينها) كضريبة 15% على مردود المصارف من هذه العمليات الاستثنائية، فضلاً عن استقطاب المزيد من الودائع بالدولار، وتوجيهها الى المصرف المركزي لزيادة احتياطه بالعملات الأجنبية.. في حين كانت الدولة تزيد «دولرة» دينها العام، عبر زيادة حصة اليوروبوند من مجموع دينها العام، في حين كان ميزان المدفوعات يراكم عجوزات متتالية منذ 2011، غطّتها مرحلياً الهندسات المالية في 2016-2017 لتعاود العجز ويكبر الفارق بين الودائع المتزايدة بالدولار من جهة وتراجع الموجودات بالدولار الأميركي من جهة أخرى..

 

في موازاة ذلك، كانت مؤسسات التصنيف الدولية (فيتش، موديز، وستاندرد أند بورز)، تخفّض أكثر فأكثر التصنيف السيادي للبنان، مما يعطي إشارة لحاملي اليوروبوند عن صعوبة السداد. وبالنسبة لسندات الخزينة بالعملة الوطنية يمكن تغطيتها، حتى في حال عجز الدولة عن السداد، عبر اللجوء الى طبع النقد في المصرف المركزي، كإجراء استثنائي في الحالات الطارئة، وتتحمّل البلاد التضخّم بعدها. أما بالنسبة لليوروبوند، فلا يمكن للمصرف المركزي المحلي طباعة الدولار الضروري لتسديدها، ولا الاستمرار الى ما لا نهاية باستنزاف احتياطه بالعملات الأجنبية .. الأمر الذي يؤدي بالدولة الى إعلان وقف السداد، كما حصل في نيسان 2020 عند العجز عن تأمين الدولار لإيفاء الاستحقاقات..

 

إذا كانت الدولرة الجزئية، على الرغم من ارتفاعها كما هو الحال في لبنان، تشكّل «وسيلة ملجأ» للعملاء الاقتصاديين من عدم استقرار قوتهم الشرائية، بعد تجربة تضخمية شديدة وانخفاض حاد في سعر صرف، قد يكون من الصعب إزالتها.. في حين يُعتبر إلغاء الدولرة بشكل تدريجي أمرًا ضروريًا لتجنّب مخاطر الدولرة الجزئية: خصوصاً مخاطر الملاءة المالية ومخاطر السيولة.

 

كما أنّ الدولرة جعلت أي أداة استقرار قائمة على ضبط عرض النقود بالليرة اللبنانية غير فعّالة، وأدّت إلى اعتماد الاستقرار القائم على تثبيت سعر الصرف، بالتدخّل المستمر لـ»دعم» سعر صرف العملة الوطنية. لكن الحفاظ على هذا «الاستقرار» كان يتطلب دائمًا توفير عنصر احتياطي العملات الأجنبية لمصرف لبنان، للحفاظ على هامش تدخّله في سعر الصرف في السوق، الأمر الذي تطلب جذب ما يكفي من الدولارات من الخارج، وتحقيق فائض في ميزان المدفوعات (من خلال مجموع فائض تقليدي في ميزان الرساميل، يفترض أن يعوّض عجز الميزان التجاري في بلد يستورد 80% من إستهلاكه).

 

من هنا، يتبيّن دور تدهور ميزان المدفوعات منذ عام 2011، والنفاد التدريجي لاحتياطيات العملات الأجنبية، ما أدّى إلى اندلاع الأزمة في تشرين الأول 2019، والانهيار الحاد بسعر الصرف، بعد السيطرة على السعر الرسمي إلى مستوى USD / LBP 1507.5 منذ عام 1997.

 

وهكذا، بعد 22 عامًا من تثبيت سعر الصرف، من خلال ربط الليرة اللبنانية بالدولار الأميركي، تشهد العملة الوطنية انخفاضًا جذريًا في قيمتها في سوق الصرف الموازي، مع توقف إمكانية تحويل العملة الوطنية إلى عملات أجنبية في القطاع المصرفي. ومرة أخرى، تفقد الليرة اللبنانية وظائفها الثلاث، وهي: وحدة الحساب والوسيط التجاري والاحتفاظ بالقيمة الشرائية، وهو ما يذكّرنا بتجربة الاستهلاك والتضخم المفرط في الثمانينيات. ومع ذلك، فإنّ الأزمة الحالية تتميز ببيانات أكثر خطورة وتعقيدًا، من تلك التي كانت موجودة في الثمانينيات. مع القلق من المنحى المعاكس، المتمثّل بإزالة قسرية للدولرة وفرض سحب الودائع المصرفية اللبنانية بالدولار الأميركي حصرياً بالليرة اللبنانية، كما يحصل اليوم، قبل اعتماد سعر صرف موحّد حفاظاً على قيمتها وفق معطيات السوق...

 

من هنا، وبعد سقوط نظام ربط الليرة اللبنانية بالدولار الأميركي على أساس التدّخل المستمر للمصرف المركزي للحفاظ على سعر صرف رسمي، لم يعد يأخذ في الاعتبار مجمل المؤشرات الماكرو اقتصادية، لا سيما منها ميزان المدفوعات، في ظل الدولرة الجزئية، ما يدعو للتطلّع صوب خيارات بديلة أكثر فعالية لاستعادة الاستقرار بالمعطيات الحالية.. فهل يكون الاتجاه صوب إلغاء ألزامي للدولرة أو العكس، الذهاب الى الدولرة الشاملة، أم الوقوف وسطياً أمام خيار مجلس النقد أو مجلس مصرفي مستقبلي، يساهم أيضاً في استعادة الثقة بالجهاز المصرفي ككل؟

 

     

مالية الاقتصاد الصغير في لبنان الكبير...Tuesday, 02-Mar-2021

 مالية الاقتصاد الصغير في لبنان الكبير...

على رغم من صغر حجمه لطالما شكّل الاقتصاد اللبناني قبل حرب 1975 نموذجا استثنائيا لامعا في محيطه بموازنات مالية متوازنة بلا عجز ولا حاجة للاستدانة وفائض ميزان مدفوعات بنتيجة تغطية فائض ميزان الرساميل على العجز التقليدي لميزان المدفوعات.. الى أن تبدّلت الحال منذ فترة الحرب وازدادت تحديات فترة إعادة الإعمار، ثم ما إن بدأ الاقتصاد يستعيد أنفاسه حتى جاءت متغيرات العام 2011 لتغلق كل مصادر تمويله واستقطابه للعملات الأجنبية.. فهي إشكالية المالية العامة في لبنان وكيف خرجت عن السيطرة؟ وأي أفق لتطوّرها؟ ما هي أبرز المراحل التي شهدها تطورها؟ وما أهم محطاتها؟ وأي تطلّع الى مستقبلها؟

بعد العصر الاقتصادي الذهبي الذي سبق اندلاع الحرب اللبنانية عام 1975 وحتى اليوم، أصبحت موازنات الدولة المتتالية تعاني عجزاً مالياً، ليس بسبب الدور المتنامي للقطاع العام في التنمية الاقتصادية، ولكن بسبب الحرب ثم بسبب فقدان السيطرة على الإنفاق والإيرادات وغياب الإصلاحات الاقتصادية المعمّمة في فترة ما بعد الحرب، وغياب الرؤيا الاقتصادية الكفيلة بتحقيق التنمية المتوازنة قطاعيا ومناطقيا على كل المستويات، لا بل توجيه معظم الادّخار صوب تمويل مالية عامة تفتقد للإصلاح وتستدين لإيفاء فوائد ديونها السابقة...

 

بين عامي 1982 و1985، زادت النفقات بنسبة 178 % بينما زادت الإيرادات بنسبة 65 % فقط. بين عامي 1986 و1988، زادت النفقات بنسبة 702 % وزادت الإيرادات بنسبة 250 % . بين عامي 1988

 

و1990، أي خلال العامين الأخيرين من الحرب، وبفضل ضغوط مصرف لبنان المركزي الذي تشدد حينها في تمويل الخزينة تم ضبط التمويل المباشر منه بمقدار ثلث الحاجات التمويلية للقطاع العام وبدء التوجّه نحو الاستدانة لشراء الوقت والتخفيف من التضخم الناتج من التسليفات المباشرة وزيادة الكتلة النقدية المتداولة... كذلك تم إبعاد شبح تقسيم المصرف المركزي حينها ومحاولات البعض الضغط في اتجاه خلق عملتين للاقتصاد وانهيار آخر رموز وحدة اقتصاد الوطن المتشلّع على ضفّتي خطوط التماس... فكان الاقرار بأنّ الاقتصاد اللبناني أصغر من أن يقسّم في عز انقسام دولة لبنان الكبير...

 

وتشير تقديرات وزارة المال إلى استمرار عجز الموازنة خلال مراحل الحرب حيث بلغ نحو 28.5 % من الإنفاق عام 1977، و27.8 % من الإنفاق عام 1978، و38 % من الإنفاق عام 1981. وتشير تقارير صندوق النقد الدولي إلى أنّ النمو الذي شهده لبنان بين 1979 و1980 بسبب دخول التدفقات الرأسمالية أو «المال السياسي» إلى لبنان من خلال دعم دول أجنبية، قد بدأ في النمو. وتدهور من النصف الثاني من عام 1981..

 

بين عامي 1991 و2011، أظهر اقتصاد لبنان نموا معتمدا إلى حد كبير على المديونية (بمقدار 150 % من الناتج المحلي الإجمالي) وعلى السياحة والخدمات المالية والاستثمار العقاري وخصوصا التحويلات المالية من الخارج (المبالغ التي يرسلها اللبنانيون المقيمون في الخارج إلى أقاربهم في الوطن) تتجاوز 7 مليارات دولار في السنة... ذلك قبل أن تتبدل الأوضاع مع اهتزاز الاستقرار السياسي عام 2011 وبداية الأزمة في سوريا والعراقيل التي رافقتها عبر الحدود البرية لتبادل السلع وانتقال السائحين بين لبنان وسائر البلدان العربية، وقد ترافق ذلك مع توافد مئات ألوف من النازحين في اتجاه لبنان وتبدّل مناخ الاستقرار في المنطقة، وتحوّل ميزان المدفوعات من رصيد إيجابي بفضل استقطاب الرساميل الخارجية الى تراكم رصيد سلبي تطلّب شراء الوقت عبر اللجوء الى «هندسات مالية» منذ العام 2016 لزيادة الاحتياطي من العملات الاجنبية وخفض كلفة الدين العام، كون الفائدة على اليوروبوندز أقل من الفوائد على سندات الخزينة بالليرة اللبنانية والمحافظة على سياسة ربط سعر صرف العملة الوطنية بالدولار الأميركي على أساس 1507.5 ليرة لكل دولار أميركي... الى ان تراكمت عناصر الأزمة في أواخر العام 2019 وانفجرت عام 2020 بالتدهور الشامل تزامنا مع الذكرى المئوية لقيام «دولة لبنان الكبير».

 

وفي نظرة تاريخية الى المؤشرات الاقتصادية للبنان، يتبيّن أنّ ذكرى الفترة التضخمية وانهيار سعر الصرف في الثمانينات شكّلا أساس خيارات مصرف لبنان، من حيث سياسة الاستقرار النقدي وتثبيت سعر الصرف، التي انتُهجت بين عامي 1997 و2019. وقد أظهرت مختلف الدراسات أنّ المكمن الرئيسي لأزمة الثمانينات كان على وجه التحديد التمويل النقدي لعجز الموازنة، من خلال التسليفات المباشرة من مصرف لبنان إلى الخزينة. في المرحلة الأولى، كانت فترة التمويل بواسطة التسليفات المباشرة من مصرف لبنان أي طبع النقد، وكان النهج النظري، الذي جعل من الممكن تفسير هذه الأزمة هو «التضخم المفرط والمفاجئ» الناتج من التمويل النقدي لعجز موازنة الدولة تحت ضغوط الحكومة المعروفة بمشكلة «التضارب الزمني».

 

ومع تطور الدين العام، أصبحت السياسة الأنسب للسلطة النقدية اللبنانية مرتكزة على الأسلوب الكلاسيكي الجديد والذي تثبت أدبياته الاقصادية، أنّه حتى لو كان المصرف المركزي يسيطر بصرامة على معدل نمو الكتلة النقدية على المدى القصير، فإنّ المديونية المتزايدة للدولة يمكن أن تؤثر على توقعات تحقيق الدخل، وبالتالي التوقعات التضخمية.

 

فكان اختيار العملاء الاقتصاديين هو «استيراد الصدقية النقدية» باللجوء إلى الدولرة. وكان اختيار مصرف لبنان هو السعي لتحقيق الاستقرار النقدي وفقا للنهج التقليدي النقدي من خلال التحكّم بالتضخم بالارتكاز الى سياسة نقدية مقيّدة، قبل التحرك تدريجا بنحو موازٍ لربط سعر الصرف. في ظلّ معدلات دولرة آخذة بالارتفاع، بحثاً عن ضمان القدرة الشرائية للمدخرات وتسهيلاً للتسعير والتداول للمنتجات.

 

ومن المعلوم أنّ التجربة القاسية لتضخم الثمانينات أرخَت بظلالها بقوة على خيارات السياسة النقدية مطلع التسعينات، حيث تلقّى المصرف المركزي كرة النار، فكان عليه امتصاص التضخّم الذي ساهم في حدوثه بنحو أساسي، بسبب زيادة الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية، إن لتمويل الدولة أو لتلبية احتياجات تمويلية تحت كل ضغوط تلك الحقبة من الحرب وعدم الاستقرار على كل المستويات... هكذا بدأ تأثير ذكرى فترة التضخّم والدولرة على سلوك الحكومات والسلطة النقدية بحثاً عن تثبيت استقرار قيمة العملة الوطنية وقدرتها الشرائية في مطلع التسعينات، بعد انتهاء الحرب ميدانياً.

 

وخلال تلك الفترة، تركّزت جهود الحكومة على استبدال التمويل النقدي لعجز الموازنة على شكل سلفات خزينة مباشرة من المصرف المركزي بالدين العام، عبر اصدار سندات الخزينة، حتى لو احتفظ بجزء كبير منها المصرف المركزي والمصارف التجارية العاملة في لبنان، التي كانت مُلزمة بداية بالاكتتاب بسندات الخزينة بنسبة 60 % من التزاماتها بالليرة، ثم تمّ خفض هذه النسبة الى 40 % عام 1994 قبل إلغائها عام 1997 تزامناً مع اتخاذ خيار تثبيت سعر الصرف...

 

علماً أنّ تثبيت سعر الصرف بدلاً من الكتل النقدية، هو خيار طبيعي وثابت في الأدبيات الاقتصادية العلمية، كما في تجارب في ظلّ الدولرة، لأنّ الدولرة تفقد فعالية ضبط الكتلة النقدية بالعملة الوطنية بفعل سيطرة استخدام العملة الأجنبية، لذا يكون اعتماد ضبط سعر الصرف هو الأنجع.

 

إذاً، وعلى رغم من تعدّد الأسباب، إلّا أنّ الشرارة الأولى للتضخّم بدأت مع تمويل المصرف المركزي للدولة، ومع اعتماد زيادة النقد بالعملة الوطنية حتى افتقاد السيطرة على قيمتها وبدء هروب الناس منها في اتجاه الدولار، بعد افتقاد أدوارها الثلاثة كوحدة حساب وتسعير، ووسيلة للتداول ودفع المستحقات وقيمة للاحتياط..

 

ومع ذلك، من الضروري التمييز بين المنطق التقليدي الذي يفترض وجود عملة واحدة فقط، يتمّ تداولها في كل اقتصاد، والمنطق الذي يأخذ في الاعتبار وجود دولرة في الاقتصاد المعني، وبالتالي وجود عملة أجنبية مستخدمة الى جانب العملة الوطنية وتعرّض السوق لما يُعرف بـ»التضخّم المستورد» في حال تدهور قيمة العملة الوطنية ازاء العملة الاجنبية، وبالتالي الاضطرار الى تثبيت العملة الوطنية ازاءها، في ظلّ توازي استخدام العملتين.

 

وقد أظهرت تقارير صندوق النقد الدولي أنّ النمو الذي شهده لبنان بين عامي 1979 و1980، بسبب تدفق رأس المال أو «المال السياسي» إلى لبنان من خلال دعم الدول الأجنبية، ترك بعده تدهوراً بدأ من النصف الثاني من عام 1981 مع تدهور الأمن. خلال هذه الفترة، فقدت الدولة كل سيطرتها على إيراداتها ونفقاتها، واستندت قراءة أرقام المالية العامة والوضع الاقتصادي العام فقط على التقديرات، ولم تعد الإحصاءات رسمية وموثوقة. واستمر تعليق نشر حسابات الموازنة على النحو المنصوص عليه في الدستور وقانون المحاسبة العامة من 1979 إلى 1993.

 

منذ الثمانينات، حاول مصرف لبنان الحدّ من تسليفاته المباشرة للخزينة العامة، والحدّ أيضاً من تحويل مكاسبه من إعادة تقييم احتياطيات من الذهب إلى الخزينة العامة، كونه لم يقم لا بعملية بيع ولا إدارة لاحتياطي الذهب، حتى يعتبر أنّه حقق منه أرباحاً.

 

ومنذ عام 1993، تبنّى مصرف لبنان سياسة نقدية متشددة ودعم تدريجي لليرة اللبنانية، حتى ربط صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي عند 1507.5 كمعدل متوسط منذ عام 1997.

 

إلّا انّ تزايد الدين العام مثّل تقييداً للسياسة النقدية وأثّر في صدقية المصرف المركزي لدى العملاء الاقتصاديين (الذين يتوقّعون عن حق لجوء الدولة اليه لتمويل الدين العام)، كذلك يشكّل معدّل الدولرة المرتفع تقييداً أيضاً للمصرف المركزي وسياسة تثبيت سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي، والتي كانت مكلفة للاقتصاد، من دون ضمان الاستقرار الفعلي، والبرهان استمرار معدّل الدولرة بنسبة 82 % بعد 22 عاماً من تثبيت سعر الصرف، فيما كان يمكن الانتقال التدريجي إلى نظام أكثر مرونة ومُتماهٍ مع مؤشرات ميزان المدفوعات، وطبعاً بأقل كلفة من العجز الفجائي عن التدخّل وترك الساحة للسوق الموازي.

 

ومن المعلوم أنّ الدين العام قد ازداد بـ»تأثير كرة الثلج» منذ بداية فترة إعادة الإعمار في التسعينات، إلّا أنّه شهد تغيرًا جذريًا في هيكليته في عام 2002. وحتى العام 2002، كانت الحصة أصل الدين العام بالليرة اللبنانية. منذ عام 2002، وبعد مؤتمر باريس -2 بالتحديد للدعم الدولي للبنان، بدأت تكبر حصة الدين العام بالدولار الأميركي، بهدف خفض خدمة الدين العام ونموه (حيث أنّ أسعار الفائدة على سندات الخزينة بالدولار الأميركي أقل طبعاً من معدلات الفائدة على سندات الخزينة بالليرة اللبنانية)، وتشجّع أصحاب رأس المال المقيم وغير المقيم على الاكتتاب فيها. وقد أدى هذا التغيير في هيكلة الدين العام دورا حاسما في الحفاظ على سياسة سعر الصرف، وزاد من تعقيد قيود الدولرة. وصندوق النقد الدولي، الذي دعا سابقاً إلى خفض قيمة العملة، عاد وأيّد سياسة ربط سعر الصرف، بعد أن تبيّن له أنّ أي خفض في قيمة العملة سيؤدي إلى زيادة الدين بالعملات الأجنبية، وسيؤثر على ملاءة الدولة وسيخاطر بإحداث أزمة خطيرة في النظام المصرفي كالتي نعيشها اليوم..

 

والمعلوم إقتصادياً أنّ كل زيادة في السيولة المتداولة لا تتوافق مع نمو اقتصادي موازٍ ومن دون تغيير في سرعة تداول العملة، تُترجم بزيادة معدل الأسعار وضرب سعر صرف العملة الوطنية نسبة الى سائر العملات الأجنبية، ما يجعل الاستيراد أيضاً أغلى، فيتغذى أكثر مفعول التضخم... وهذا ما يحصل يومياً في لبنان ولو بنحو أكثر وضوحاً منذ تشرين الأول 2019 من دون معرفة الحدود الزمنية والكمية لهذه المؤشرات كما لانعكاساتها.