mercredi 19 mai 2021

من خيارات «مصرف لبنان».. الى الأمر الواقع!

من خيارات «مصرف لبنان».. الى الأمر الواقع!

د. سهام رزق الله

أستاذة مُحاضرة في كلية العلوم الاقتصادية لجامعة القديس يوسف


Tuesday, 18-May-2021 05:50

https://www.aljoumhouria.com/ar/news/595734/%D9%85%D9%86-%D8%AE%D9%8A%D8%A7%D8%B1%D8%A7%D8%AA-%D9%85%D8%B5%D8%B1%D9%81-%D9%84%D8%A8%D9%86%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%85%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%A7%D9%82%D8%B9?utm_source=editor&utm_medium=web&utm_campaign=listnews

طيلة 22 عاماً من «ربط» سعر صرف الليرة اللبنانية بالدولار الأميركي لم يكترث أحد بكلفة سياسة سعر الصرف وارتفاع معدلات الفوائد وأوضاع الاحتياطي بالعملات الأجنبية وضغط ميزان المدفوعات، ولا بالسعي الى تعزيز الثقة بالعملة الوطنية وضبط مستوى الدولرة... بقيت الدولرة «ثابتة» في الاقتصاد اللبناني، وبقيت الكلفة من «تثبيت» سعر الصرف خياراً حصرياً، وأصبح أمراً واقعاً يستدعي تدخّلاً متواصلاً لمصرف لبنان في سوق القطع، للحفاظ على معدل 1507.5 ليرات لكل دولار، بغض النظر عن نشاط الاقتصاد وحركة الرساميل والميزان الخارجي.. فما هي علاقة «ثبات» الدولرة بـ»تثبيت» سعر الصرف؟ أين كانت تكمن عناصر المخاطرة في التعامل معها؟ أي خيارات كانت متاحة؟ وأي أمر واقع يفرض نفسه اليوم؟

 

منذ ارتفاع معدل الدولرة إلى 86% في أعقاب التضخم الجامح عام 1987، صمدت الدولرة في لبنان وانخفضت فقط إلى أقل من 70% بقليل، لترتفع إلى أكثر من 76% اليوم. حتى اندلاع الأزمة في عام 2019، كانت الودائع بالدولار قد بلغت نحو 120 مليار دولار، أي مرة ونصف من الناتج المحلي الإجمالي للبنان في ذلك الوقت، واحتفظ القطاع المصرفي بيوروبوند بقيمة 15 مليار دولار، كما احتفظ بـ70 مليار دولار لدى مصرف لبنان على شكل احتياطات الزامية على الودائع بالعملات الأجنبية (15% من الودائع بالعملات الأجنبية أو ما يقرب من 18 مليار دولار) وشهادات إيداع بالدولار (تقدّرها بلومبيرغ بـ 52.8 مليار دولار)... بينما مصرف لبنان حمل سندات دولية مقابل 5.7 مليارات دولار.

 

أما في أحدث الأرقام في نهاية آذار 2021، فقد أصبحت ودائع القطاع الخاص بالعملات الأجنبية الى حدود 109.89 مليارات دولار، وودائع القطاع الخاص بالليرة اللبنانية 49460 مليار ليرة لبنانية (أي ما يوازي 32.81 مليار دولار وفق سعر الصرف الرسمي 1507.5). وبذلك أصبح ما يعادل مجموع الودائع 142.7 مليار دولار أميركي، مقابل 180 مليار دولار قبل اندلاع الأزمة.. وعاد وارتفع معدّل الدولرة الى 80.24%.

 

وبذلك، يتبيّن تمسّك الاقتصاد اللبناني بمعدّل مرتفع للدولرة، حتى لو بقيت جزئية وغير رسمية، ولو بعد 22 عاماً من «تثبيت» وليس «ثبات» سعر الصرف، نظراً لاستمرار تدخّل المصرف المركزي في سوق القطع حفاظاً على مستوى متشدّد من ضبط سعر العملة ضمن هامش ضيّق 1501-1514 وسعر وسطي 1507.5.. كما أنشأ مصرف لبنان غرفة مقاصّة للشيكات الدولارية، وجعل من الممكن ملء أجهزة الصراف الآلي (ATM) بالعملتين، الليرة اللبنانية والدولار الأميركي، الأمر الذي شكّل عصب الأساس لخطر المضاربة قبيل الأزمة وبداية شح الدولار الورقي. إذ كان بإمكان أي «مقيم» على الأراضي اللبنانية إدخال أموال بالليرة اللبنانية الى حساب جارٍ ثم سحبها بالدولار الورقي مباشرة من الصراف الآلي من دون أي رقيب أو حسيب، فيما كل بلدان العالم لا تملأ الصراف الآلي سوى بعملتها الوطنية، وتفرض على كل من لديه حساب بالعملة الأجنبية أن يبرر الى المصرف أي طلب سحب بالعملة الأجنبية ورقياً ومن داخل الفرع وليس من الصراف الآلي.

 

وقد أدّت الدولرة المرتفعة إلى عدم فعالية أي أداة استقرار قائمة على التحكّم بالكتلة النقدية بالليرة اللبنانية، وأدّت إلى اعتماد الاستقرار على أساس تثبيت سعر الصرف من خلال التدخّل المستمر لمصرف لبنان في سوق الصرف، مما يتطلب بشكل دائم توفير احتياطات بالعملات الأجنبية لدى مصرف لبنان لتأمين هامش تدخّله في سوق الصرف. وقد تطلب ذلك جذب ما يكفي من الدولارات من الخارج، وتحقيق فوائض في ميزان المدفوعات (حيث تقليدياً فائض ميزان الرساميل يعوّض عجز الميزان التجاري في بلد يستورد أكثر من 80% من إستهلاكه).

 

من المعروف أنّ معظم البلدان المدولرة عانت من نوبات انخفاض حاد في سعر الصرف، ومع عودة الاستقرار، غالباً ما كان يختفي فرق العوائد بين العملتين؛ ومع ذلك، هناك عدد قليل من البلدان التي حدث فيها انعكاس كبير في عملية الدولرة، أي معاودة استخدام العملة الوطنية حصرياً والتخلّي عن التعامل بالعملات الأجنبية، أو ما يُعرف بـ»اللارجعة» عن الدولرة، مما يجعلها تتمسّك بتثبيت ربط سعر العملة الوطنية بالدولار الذي يتمّ استخدامه بشكل متوازٍ مع العملة الوطنية في الأسواق..

 

ووفق التقرير السنوي عن ترتيبات نظام الصرف وقيود الصرف (2018) تمثل البلدان التي تعتمد تقييد أو ربط سعر الصرف حوالى 42% من مختلف البلدان، تليها البلدان التي تعتمد أطر السياسة النقدية الأخرى (24%)، والبلدان التي تحدّد مستوى التضخم (21%)، وتلك التي تعتمد غيرها من الأهداف النقدية (13%). وتحاول بعض الدول التي تستهدف سعر الصرف التحرّك نحو مزيد من المرونة في سعر الصرف، كما فعلت دول أخرى في السابق، في حين فضّلت بعض البلدان الاستقرار في إطار تثبيت سعر الصرف بشكل مستدام.

 

في ظلّ حرية حركة الرساميل وسعر الصرف الثابت مقابل عملة واحدة، على سبيل المثال، يمكن للبنك المركزي أن يعتمد سياسة التدخّل فقط وفق مبدأ منع حصول انحرافات كبيرة في سعر الصرف أو شرط تكافؤ أسعار الفائدة بين العملة المحلية والدولار الأميركي. في ظلّ نظام ربط موثوق به، من غير المتوقع أن تتغيّر الفائدة على العملة المحلية بالنسبة إلى العملة التي ترتبط بها سوى بفارق علاوة المخاطرة. إذا كان هناك انحراف مقصود عن شرط تعادل سعر الفائدة، يمكن للرساميل، نظرياً، أن تتدفق إلى الدولة ذات معدل الفائدة الأعلى والأقل خطرًا.

 

ومع ذلك، فإنّ السياسة النقدية في ظل ربط سعر الصرف أكثر تعقيداً من ردّ الفعل البسيط وفقاً لقاعدة معينة من قواعد السياسة النقدية، إذ لا تحتاج السياسة فقط إلى إدارة فرق سعر الفائدة وسدّ فجوة التضخم مع البلدان التي تشهد إستقراراً راسخاً.

 

كما ينبغي على البلد الذي يتمسّك بربط عملته المحلية بعملة أجنبية دولية مستقرة أن يأخذ على عاتقه مستوى الاحتياطيات لديه بالعملات الأجنبية، التي تُعتبر كافية لدعم صدقية الربط، وذلك يتطلّب الحرص على تأمين فائض سنوي بميزان المدفوعات مما يعني دخول عملات أجنبية أكثر من خروجها سنوياً من البلد المعني. أكثر من ذلك، تحتاج السياسة النقدية إلى معالجة الاختلالات المحتملة في أسعار الصرف التي يمكن أن تنشأ عن التغيّرات المتوقعة في العملات الأساسية، أو الاختلالات في أسواق المال والعملات الأجنبية.

 

وغالباً ما يكون الحجم الإجمالي لتدفقات العملات الأجنبية - المرتبطة بالمعاملات الجارية وحسابات رأس المال - بدلاً من درجة حرية حركة الرساميل هو المحرّك للمراجحة بين أسواق المال وأسواق العملات الأجنبية، مما يؤدي بدوره إلى تشكيل طبيعة انتقال النقد. الصدمات الخارجية يمكن أن تكون صدمات الميزان الجاري أو ميزان الرساميل، ويمكن أن تكون للبلد حرية حركة الرساميل دون أن يعني ذلك حتماً إمكانية تدفقها إليه. من ناحية أخرى، حتى عندما تكون حركة الرساميل مقيّدة نسبياً، فإنّ قدرة البنك المركزي على التحكّم بالفائدة يمكن أن تكون صعبة، خصوصاً عندما تكون احتياطيات العملات الأجنبية منخفضة، ويكون الاقتصاد معرّضاً لصدمات كبيرة في شروط التجارة والعملات، فيكون الخيار الأمثل باعتماد سعر صرف يتماهى مع طبيعة الصدمات - سواء كانت فعلية أو اسمية - ودرجة حرية حركة الرساميل.

 

ويلاحظ عادة خوف العديد من البلدان النامية من تعويم سعر الصرف، وتسعى الى ربط سعر صرفها أو إدارته بإحكام لعدد من الأسباب لا سيما منها زيادة احتياطياتها بالعملات الأجنبية، والحفاظ على التنافسية، والحدّ من الضغوط التضخمية في غياب ربط اسمي بديل. وتربط بعض البلدان سعر الصرف الخاص بها بسعر الصرف للاقتصاد الأكبر والأكثر ثباتاً، وخصوصاً عندما يكون البلد المعني مدولراً...

 

وعادة ما يلعب سعر الصرف دوراً مهيمناً في اقتصادات الأسواق النامية والناشئة مقارنة بالاقتصادات المتقدّمة، حيث تتمّ المعاملات الأجنبية بالعملة المحلية، وتكون الأسواق أعمق، والقطاع الخاص أكثر استعدادًا للتعامل مع مخاطر العملات الأجنبية.

 

يمكن إدارة سعر الصرف من خلال التدخّلات التقديرية أو القائمة على القواعد، أو من خلال استخدام معدّل الفائدة الذي يقلّل من الحاجة إلى تدخّلات كبيرة في العملات الأجنبية، وبالتالي الحفاظ على احتياطيات العملات الأجنبية. وتسمح السياسات النقدية وسياسات أسعار الصرف التقديرية بالكامل بتحقيق أكبر قدر من المرونة في الاستجابة للصدمات غير المتوقعة ولكنها قد تؤدي إلى إشارات متضاربة حول أهداف البنك المركزي، مما يقوّض صدقية السياسة النقدية.

 

ومعلوم أنّ ربط العملة المحلية بسلة من العملات يقلّل من مخاطر الاختلال، على وجه الخصوص عندما يُتوقع حدوث تغييرات كبيرة في العملة الأساسية الواحدة وفق الخيار الذي طرحه نموذج الاقتصادي Williamsson عام 2000 وتمّ بحثه في لبنان عام 2006، دون التمكّن من اعتماده، بهدف حماية لبنان من «التضخّم المستورد» لتقلّب سعر صرف الدولار مقابل سائر عملات البلدان التي تُعتبر شريكاً تجارياً أساسياً للبنان مثل أوروبا... تتأثر الدولة ذات التجارة المتنوعة التي تربط سعر الصرف بعملة واحدة - أو بسلة من العملات ذات الوزن السائد لعملة معينة - بشكل أكبر، بتقلبات هذه العملة الأساسية المهيمنة التي يمكن أن تعطل توازن الاقتصاد الكلي.

 

بالإضافة إلى ذلك، فإنّ التغييرات في الأسعار الثنائية تخلق مستوى معيناً من مخاطر العملات الأجنبية وتحفّز السوق المشاركين على التحوط بشكل أفضل ضدّ مخاطر تقلّب أسعار عملات الشركاء التجاريين الرئيسيين لأي بلد بين بعضها، وإزاء العملة الأساسية التي اختار ربط عملته بها بشكل خاص.. فكان لبنان يشعر بارتفاع كلفة المنتجات الأوروبية مثلاً كلما ارتفع سعر الأورو تجاه الدولار بسبب ربط الليرة اللبنانية بالدولار حصرياً وليس بسلة من العملات لأبرز الشركاء التجاريين للبنان، لا سيما الأورو، نظراً لحجم الاستيراد من البلدان الأوروبية...

 

كل الخيارات الاستباقية للأزمة، من منع التداول بالدولار الورقي عبر الصراف الآلي لضبط المضاربة، أو اعتماد استقرار الليرة إزاء سلة من العملات وتوسيع هامش التدخّل في سوق القطع وفق المؤشرات الماكرو اقتصادية، خصوصاً منها ميزان المدفوعات، لم تعد اليوم تجدي نفعاً. في الوضع الجديد أصبح الانتقال الى نظام سعر الصرف المرن أمراً واقعاً وليس خياراً، واصبح تدخّل المصرف المركزي لضبط الاختلالات الكبرى مرتبطاً بتصحيح الخلل الأساسي، المتمثّل بميزان المدفوعات، الذي لا يرتبط بقرار لمصرف لبنان بل بسياسة إقتصادية إصلاحية شاملة للدولة اللبنانية، تعيد ترميم علاقات لبنان الاقتصادية الخارجية، وتسترجع الثقة لاستقطاب الرساميل والاستثمارات والسياح، لتأمين توازن «فعلي» وليس «اصطناعياً» لليرة اللبنانية إزاء العملات الأجنبية. 

بين مصادر تمويل الدولة واحتياطي مصرف لبنان... هل دقّت ساعة "الدعم"؟

بين مصادر تمويل الدولة واحتياطي مصرف لبنان... هل دقّت ساعة "الدعم"؟

د. سهام رزق الله

أستاذة مُحاضرة في كلية العلوم الاقتصادية لجامعة القديس يوسف

Wednesday, 05-May-2021 06:43

يحتدم اليوم السجال الإعلامي حول إمكانيات واحتياطي مصرف لبنان ودوره في ما سُمّي خطأ بـ"الدعم" للاقتصاد الوطني، من خلال سياسته النقدية والبحث عن خيارات سبل تمويل الدولة، بعد التمادي في "تغطيس" الجهاز المصرفي في تمويل عجوزاتها حتى غرق الجميع في مركب واحد.

فما هي إشكالية التمويل العام وأي خيارات متاحة؟ وأي أدوات للمصرف المركزي في تأمين التمويل، وبأي وسائل تحفظ سلامة الاستقرار النقدي المفترض أن يشكّل الهدف الرئيسي للمصرف المركزي؟ الإجابة تتطلّب من ناحية استعراض مختلف وسائل تمويل القطاع العام، ثم البحث بمهمة المصرف المركزي وأدواته في إدارة السياسة النقدية، ومنها تحديداً "الاحتياطي الالزامي". ما كانت أبرز خيارات مصرف لبنان والقطاع المصرفي في السنوات الأخيرة؟ وكيف تترجم إنعكاسها اليوم؟

من المعروف إقتصادياً، أنّ مصادر تمويل رئيسية لأي عجز في مالية الدولة، تكون:

 

أولاً، زيادة الإيرادات الضريبية عبر زيادة الضرائب المباشرة وغير المباشرة وزيادة الرسوم. الضرائب المباشرة تكون أكثر عدالة كونها مرتبطة بقدرة المكلّفين وتشمل الضرائب على أرباح المؤسسات، الضرائب على الرواتب والأجور، الضرائب على فوائد الودائع المصرفية، والضرائب على إيجار الأملاك العقارية... وكلما كانت هذه الضرائب تصاعدية تراعي قدرة المكلّفين بها وتزيد العدالة الاجتماعية في التعامل معهم.


أما الضرائب غير المباشرة (مثل ضريبة القيمة المضافة على السلع) فتكون أقل عدالة، كونها لا تميّز بين قدرات المكلّفين وتضع عليهم نفس الأعباء بغض النظر عن اختلاف الامكانيات. وبما أنّها الأسهل للتحصيل بشكل تلقائي من قِبل المؤسسات التي تبيع المنتجات من دون امكانية التهرّب منها (خلافاً لضريبة الأرباح مثلاً) تستسهل البلدان النامية الاعتماد عليها، لا بل زيادتها كلما احتاجت الى تحقيق تمويل اضافي، من دون عناء التدقيق والتحقق والمتابعة للتحصيل.

 

ثانياً، اللجوء الى السلفات المباشرة من المصرف المركزي، أي طباعة النقد، وهو أسهل الطرق بالنسبة للدولة العاجزة مالياً والمتمادية في نفقاتها، ولكنه الأكثر كلفة نقدياً واجتماعياً، نظراً لتداعياته التضخمية.

 

ثالثاً، اللجوء للدين العام، أي في ما يتعلّق بلبنان إصدار سندات خزينة بالعملة الوطنية، والتي حتى لو اكتتب بها المصرف المركزي تكون أقل خطر تضخّم من سلفات الخزينة المباشرة، لأنّه يمكن للمصرف المركزي إعادة بيعها لامتصاص فائض السيولة وخطر التضخم عند الحاجة...

 

رابعاً، الدين الخارجي، أي في ما يتعلّق بدين لبنان بالعملات الأجنبية بإصدار اليوروبوند (فيما عالمياً يُعتبر الدين الخارجي فقط مجموع السندات المكتتبة من غير المقيمين)، وعادة ما يكون هذا الدين مغرياً للدول النامية، كونه بأقل فائدة من سنداتها بالعملة الوطنية (نظراً لفارق المخاطرة)، ولكنّ خطره أنّه لا يمكن للدولة إن كانت عاجزة عن التسديد عند الاستحقاق أن تلجأ إلى المصرف المركزي لطباعة العملة لتغطيتها وتحمّل التضخم بعدها، لأنّه لا يمكن للمصرف المركزي المحلي طباعة العملات الأجنبية.

 

أما المصرف المركزي، فهدفه الرئيسي الحفاظ على الاستقرار النقدي والقيمة الشرائية للعملة الوطنية. من هنا أهمية المحافظة على استقلاليته، تحديداً من وقع المالية العامة وحاجة تمويل الدولة ولجوئها الى المصرف المركزي لسد تراكمات عجزها المالي والانغماس في ديونها وسنداتها.

 

ومن أبرز أدوات السياسة النقدية: اعادة تمويل المصارف، الحسم واعادة الحسم، وضع سقوف للتسليفات، بيع وشراء السندات وفق حاجة إمتصاص السيولة، التدخّل في سوق القطع حفاظاً على المستوى المناسب لسعر الصرف وفق خيارات سياسة القطع، واعتماد الاحتياطي الإلزامي لضبط السيولة والحفاظ على نسبة معينة من الودائع غير قابلة للاستخدام من قِبل المصارف، وهي عادة تكون في حساب من دون مردود لدى المصرف المركزي.

وفي هذا الإطار، تنص المادة 76 من قانون النقد والتسليف، على أنّه "يخوّل المصرف المركزي، الإبقاء على الانسجام بين السيولة المصرفية وحجم التسليف، وبين مهمته العامة المنصوص عنها بالمادة 70، صلاحية اتخاذ جميع التدابير التي يراها ملائمة، وخصوصاً التدابير التالية التي يمكنه اتخاذها منفردة او مجتمعة، او مع التدابير المنصوص عنها في الباب الثالث من هذا القانون:

أ‌- تحديد وتعديل معدلات الحسم وحدوده القصوى، وكذلك معدلات الاعتمادات الاخرى المجاز له منحها للمصارف وللمؤسسات المالية وحدودها القصوى.

ب‌- اللجوء للعمليات المشار اليها في المادة 75.

ج- شراء وبيع السندات في السوق الحرة وفقاً للمواد 106 و107 و108.

د- إلزام المصارف بأن تودع لديه أموالاً (احتياطي ادنى) حتى نسبة معينة من التزاماتها الناجمة عن الودائع والاموال المستقرضة التي يحدّدها "المصرف"، باستثناء التزاماتها من النوع ذاته تجاه مصارف اخرى ملزمة أيضاً بإيداع الاموال الاحتياطية هذه.

 

ويمكن للمصرف المركزي ان يعتبر، اذا رأى ذلك مناسباً، توظيفات المصارف في سندات حكومية او سندات مصدرة بكفالة الحكومة، كجزء من الاحتياطي، حتى نسبة معينة يعود له امر تحديدها.

 

ولا يمكن المصرف المركزي ان يحدّد نسبة الاحتياط الادنى بأكثر من 25 بالمئة من الالتزامات تحت الطلب، وبأكثر من 15 بالمئة من الالتزامات لأجل معين.

 

وللمصرف المركزي أن يفرض نسباً مختلفة على فئات مختلفة من التزامات المصارف ضمن الحدود المذكورة في الفقرة السابقة.

 

وله كذلك في الحالات الاستثنائية، ان يفرض نسباً حدّية خاصة، دون التقيّد بالحدود الآنفة الذكر، على ما يزيد من هذه الالتزامات او من أي فئات منها عن حدّ معيّن او على الزيادة المحققة في هذه الالتزامات او في أي فئات منها بعد تاريخ معين.

هـ- الزام المصارف بأن تودع لديه اموالاً (احتياطا ادنى خاصاً) حتى نسبة معينة من الموجودات التي يحدّدها المصرف.

و- ان يقبل، في ضوء الحالة النقدية العامة، ودائع لقاء فوائد يحدّدها المصرف".

إذاً، في لبنان معدل الاحتياطي الالزامي على الودائع تحت الطلب هو 25%، والاحتياطي الالزامي على الودائع لأجل بالليرة أو العملات الأجنبية هو 15%. الاحتياطي الالزامي بالليرة اللبنانية يوضع في مصرف لبنان من دون فوائد. وقد عمد المصرف المركزي الى تشجيع المصارف على استخدامها لتأمين تسليفات قروض سكنية وللقطاعات، بفوائد مخفّضة، من منطلق المسؤولية الاجتماعية والمساهمة في السياسة الإسكانية التي يفترض أن تكون أساساً من مسؤولية الدولة ضمن سياسة إسكانية شاملة "دعماً" لتأمين حق المسكن بأقل الكلفة وأسهل الشروط للشباب بشكل خاص. ولكن في غياب قرار الموازنات على مدى 12 عاماً، كان هذا التدّخل الذي سمح للآلاف من العائلات بشراء المساكن بالليرة اللبنانية بفوائد مخفّضة.

 

إذاً "الدعم" يكون من موازنات الدولة وفي إطار سياسة الرعاية والتدخّل الاجتماعي، وليس من المصرف المركزي واحتياطاته التي هي جزء لا يتجزأ من ودائع زبائن المصارف، كأدة معتمدة للتأمين على حدّ أدنى من حقوق المودعين، ومنع المصارف من التصرّف أقلّه بهذه الاحتياطات! ولا سيما الاحتياطي بالعملات الأجنبية الذي لا يملك المصرف المركزي إمكانية تأمين بدائل عنه وطباعة عملته لأصحابه أي المودعين. أما وقد تمّ توجيه معظم توظيفات المصارف بالعملات الأجنبية (التي كانت في بداية الأزمة حوالى 120 مليار دولار أميركي ولم تعد تتعدّى الـ 110 مليارات دولار أميركي) نحو تمويل القطاع العام، من خلال الاكتتاب بسندات اليوروبوند والتوظيف لدى المصرف المركزي بما يفوق الاحتياطي الالزامي (الذي يحظى أيضاً بفوائد في المصرف المركزي) بكثير، عبر شراء شهادات الإيداع بالعملات الأجنبية، فمن الجدير الاشارة الى أنّ مجمل التدخّل الذي كان يجري لضبط سعر الدولار/الليرة اللبنانية في السنوات الماضية بحدود 1507.5، ومجمل التمويل للاستيراد، وطبعاً السلفات بالعملات الأجنبية لمؤسسة كهرباء لبنان التي لامست الـ45 مليار دولار أميركي، كانت طبعاً بفضل كل هذه الدولارات الموظّفة لدى المصرف المركزي، وهي أساس الهوة بالعملات الأجنبية التي رُصدت لديه.

 

وبالتالي، من الضروري معرفة أنّ كل دولار كان يُصرف لم يكن من "دعم" الدولة بل من دولارات المودعين الموظّفة لدى المصرف المركزي، على أمل أن يكون تمّ الحفاظ على ما تبقّى أقله من إحتياطي الزامي، الذي لا يمكن التفكير بإمكانية إستخدامه سوى بوجهة واحدة، هي إعادته للمودعين- لو جزئياً ولو تدريجياً- لتأمين صموده بالحدّ الأدنى، الذي يفترض أن يكون محفوظاً أساساً لهم لهذه الغاية، خصوصاً مع الاستعدادات لموجة التضخم غير المسبوقة المتوقّعة، بعد توقف المصرف المركزي عن تزويد الأسواق بدولارات المصارف الموظّفة لديه، لتأمين الاستيراد للمنتجات الأساسية وفق سعر صرف الـ1500 ليرة، الذي لا يزال معتمداً للأدوية والقمح والمحروقات، بعد نفاد معظم الدولارات التي كانت تشكّل صمام أمان لسعر الليرة، والتمسّك بربطه بالدولار طيلة 22 عاماً، أي منذ قرار تحديد معدله عام 1997 بحدود 1507.5.

 

لقد موّل القطاع المصرفي ومصرف لبنان لسنوات الدولة والاقتصاد اللبناني، حتى في أدق الظروف وأكثرها صعوبة، وعمل بما كان لديه من صدقية محلية ودولية على استقطاب مدخرات اللبنانيين المقيمين والمغتربين ومدخرات المتمولين العرب، وأعاد ضخّها في السوق اللبنانية، إما تمويلاً للقطاعين العام والخاص، لا سيما القطاع العقاري، وإما دعماً لاحتياطي القطع الأجنبي لدى المصرف المركزي.

 

صحيح انّ القطاع المصرفي لم يكن محايداً في إنجاز المكتسبات التي حقّقها إنعقــاد مؤتمر باريس 2 ، بل تميز بلعب دور اساسي وحيوي في آلية تخفيض خدمة الدين العام، وذلك إما بطريقة مباشرة عبر الاكتتاب بسندات خزينة بمبلغ يقارب 4 مليارات دولار بفائدة صفر في المئة، وهو مبلغ فاق إجمالي مساهمات البلدان الصديقة والشقيقة معاً، وإما بطريقة غير مباشرة، عبر الإسهام في خفض معدلات الفوائد بشكل ملموس في الاسواق، وبالاخص على سندات الخزينة اللبنانية.

 

لكن "الهندسات المالية" التي أخرّت انفجار الأزمة بعض الوقت، كان من تداعياتها إرتفاع حاد بمعدّلات الفوائد لاجتذاب الرساميل بالدولار، ايرادات كبيرة للقطاع المصرفي والمكتتبين، تخفيض خدمة الدين للدولة، كون الفائدة على اليوروبوند أقل منها على سندات الخزينة بالليرة اللبنانية. إلّا أنّها شكّلت في الوقت نفسه، مخاطرة، أدّت إلى تدهور جميع المؤسسات، من مالية عامة ومصرف مركزي ومصارف تجارية، وانعكست في النهاية على المودعين.

 

اليوم، سبل التمويل للقطاع العام استُنفدت، لا إمكانية لزيادات ضريبية تحسّن الايرادات في ظل إقتصاد "مخنوق"، ولا إمكانية إستدانة جديدة بعد إعلان تعثّر السداد، وخصوصاً في ظل التوقّف عن التفاوض مع الدائنين، والدولة مستمرة باللجوء الى المصرف المركزي لتلبية حاجاتها التمويلية بطباعة النقد وزيادة السيولة التي تُترجم بزيادة التضخم في غياب أي إصلاحات، وحتى السياسات النقدية غير التقليدية استُنفدت واستُنفدت معها معظم دولارات المودعين الموظّفة لديه عبر المصارف. فهل يعود لأصحاب الودائع أقلّه الاحتياطي الإلزامي المعلن أنّه لا يزال متوفراً؟ وهل تسعى الدولة لمخارج تمويل تتحمّل فيها للمرة الأولى "دعماً" فعلياً من قبلها وعلى مسؤوليتها؟ 

samedi 1 mai 2021

لبنان... الترجمة الإقتصادية للمخاطر السياسية

 لبنان... الترجمة الإقتصادية للمخاطر السياسية

https://www.aljoumhouria.com/ar/news/590930/%D9%84%D8%A8%D9%86%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B1%D8%AC%D9%85%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%82%D8%AA%D8%B5%D8%A7%D8%AF%D9%8A%D8%A9-%D9%84%D9%84%D9%85%D8%AE%D8%A7%D8%B7%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D9%8A%D8%A9?utm_source=editor&utm_medium=web&utm_campaign=listnews

جريدة الجمهورية
Tuesday, 20-Apr-2021 06:29

الإقتصاد ليس على جزيرة نائية ولا يمكن قراءة تطوّر مؤشراته علمياً بمعزل عن مؤثرات السياسة خصوصاً وسط الاستحقاقات الجذرية التي شهدتها السنوات الأخيرة في لبنان والمنطقة... فالمعلوم أنّ الاستقرار السياسي والإصلاح الشامل أساس مناخ الإستقرار واجتذاب الرساميل والاستثمارات، في حين أنّ عوامل المخاطرة أساس في زيادة مستوى الفوائد وهروب الرساميل وضعف ميزان المدفوعات وتدني التصنيف السيادي الذي يعكس قدرة البلاد على سداد ديونها بالعملات الأجنبية وزيادة الضغوط على سعر الصرف. فكيف يمكن علمياً تفسير عوامل المخاطرة وانعكاساتها الإقتصادية؟ وأي ترجمة كان لها في الوضع اللبناني تحديداً؟

غالباً ما يتم استيعاب مؤشرات مخاطر الدولة في الفارق بين عائد السندات السيادية لبلدٍ ما وعائد سندات الخزانة الأميركية، كأن الفارق يعكس السؤال الآتي: ما المكافأة الإضافية المطلوبة للاستثمار في ديون بلد ما؟ تعكس مخاطر التخلف عن السداد أو مخاطر الائتمان احتمال أن الجهة المصدرة لسندات الدين في حالة الدولة المديونة، قد لا تكون قادرة على الوفاء بالتزاماتها كلياً وفي الوقت المحدد للاستحقاق، خصوصاً بالنسبة الى إصدارات سنداتها بالعملات الأجنبية كونها أخطر من السندات بالعملة الوطنية التي يمكن للدولة في أقصى الأحوال اللجوء الى المصرف المركزي لطباعة عملة لسدادها حتى لو تكبّدت البلاد كلفة التضخّم... أما السندات بالعملات الأجنبية فلا تملك الدولة المديونة «ترف» التخلّص منها باللجوء الى مصرفها المركزي الذي لا يمكنه طباعة عملات أجنبية غير عملته الوطنية.

 

أما لجوء بلدان مثل لبنان الى الاستدانة بالعملات الأجنبية على رغم من تلك المخاطر فمردّه الى أسباب عدة تم تلخيصها في الأدبيات الإقتصادية وفق راينهاردت وروغوف وسافاستانو [2003] أولاً، بصعوبة تسويق سندات الدين بالعملة الوطنية خصوصاً للبلدان الناشئة التي تعاني من عجز مالي وتراكم ديون وحاجات تمويلية متواصلة، وبالتالي تلجأ إلى إصدار سندات اليوروبوندز للحصول على تمويل على الصعيد الدولي كون السندات بالعملات الأجنبية يمكن إدراجها في الأسواق الخارجية. ثانياً، كون إصدار سندات اليوروبوندز عمومًا يكون غالبا بمعدلات فائدة أقل من أسعار الفائدة على سندات الخزينة بالعملة الوطنية (نظرًا للاختلاف في علاوة المخاطرة، مخاطر العملة أكبر من مخاطر البلد).

 

من هنا، تلجأ الدولة الى إصدار اليوربوندز وزيادة حصة الدين بالعملات الأجنبية من مجمل دينها بغية خفض خدمة الديون المتوجّبة عليها.. وهذا تحديداً ما حصل في لبنان وكان عملياً من أبرز نتائج الهندسات المالية التي استبدلت قسماً من الديون بالليرة اللبنانية بأخرى بالعملات الأجنبية حيث لعب المصرف المركزي دور الوسيط لتسويقها خصوصا مع المصارف اللبنانية، وهذا ما يفسّر استقطابها دولارات عام 2016 أوحت بفائض في ميزان المدفوعات الذي كان يشهد تراكم عجوزات دراماتيكي منذ العام 2011 تحديداً.

 

في الوقت نفسه، كلما زاد خطر عدم السداد في نظر وكالات التصنيف الدولية (فيتش، موديز، ستاندرد آند بورز) كلما تدهور التصنيف السيادي الممنوح لسندات اليوروبوندز اللبنانية، الأمر الذي يتطلب زيادة أخرى في أسعار الفائدة لإقناع الدائنين المستقبليين بالاكتتاب في الإصدارات الجديدة، ما يساهم في نمط يعرفه بونزي بالتوازي مع الحفاظ على تأثير تصاعد الدولرة وتراكم عجز ميزان المدفوعات في لبنان منذ اندلاع الأزمة في سوريا عام 2011، ما أدى إلى صافي التدفق السنوي للعملة الأجنبية من الدولة، مما يحدّ من مساحة مناورة مصرف لبنان.

 

إن مخاطر التخلف عن السداد هذه ليست المكون الوحيد لمخاطر البلد، لكنها المكون الرئيسي. تساعد المخاطر الأخرى، مثل مخاطر السوق أو مخاطر السيولة أو حتى المخاطر المالية أو السياسية، في تحديد مستوى المخاطر في بلد ما. ويعد مفهوم مخاطر الدولة أمراً بالغ الأهمية لأنه يعكس ثقة المستثمرين في الدولة. وإن مستوى هذه المخاطر يحد من تدفقات رأس المال إلى البلاد.

 

ما هي محددات مخاطر البلد؟

 

وفقاً لإدواردز (1984)، يرتبط مستوى الفارق إيجابياً بنسب الدين/ الناتج القومي الإجمالي وخدمة الدين، وسلبياً بالاحتياطيات الأجنبية / نسب الناتج القومي الإجمالي والميل إلى الاستثمار. وبالنسبة الى كلين وبارنز (1997) يعتبر نمو الناتج المحلي الإجمالي ونمو الصادرات من المحددات المهمة.

 

وقد يؤدي تقليص الموارد العامة إلى زيادة مخاطر التخلف عن سداد أدوات الدين الحكومية، وقد يؤدي إجبار المستثمر على الاحتفاظ بالأصول بالعملة الأجنبية فقط إلى زيادة علاوة المخاطرة على هذه الأدوات. كما يمكن أن يؤدي نظام سعر الصرف الثابت للغاية إلى مزيد من الجمود (الأجور والأسعار) ما قد يؤدي إلى تقلبات أكبر في الإنتاج، وبالتالي إلى علاوة مخاطر أكبر على أصول الدفع.

 

والترجمة العملية لذلك في لبنان تظهر أنه كان قادراً على تحسين مؤشراته الاقتصادية تدريجاً قبل عام 2011 تاريخ اندلاع الأزمة السورية وتدهور الاستقرار السياسي الداخلي، وقد تمكّن فعلياً من خفض نسبة دينه العام/ الناتج المحلي من 180 % عام 2006 إلى 138 % عام 2011 فيما سجّل معدل النمو الاقتصادي نحو 8 % لأربع سنوات متتالية حتى العام 2010 قبل أن يهبط دراماتيكياً الى ما بين 1 الى 2 % في فترة 2011-2017... وازدادت بنحو حاد ديون الدولة اللبنانية ونفقاتها ومعظمها نفقات جارية يسيطر عليها عبء رواتب القطاع العام حيث ازداد التوظيف بدل الترشيد والإصلاح فضلاً عن عجوزات قطاع الكهرباء المتواصلة والتي تستنزف سلفات الخزينة، وكذلك الفوائد على الدين العام، فيما سَعت دولرة جزء من الدين الى تخفيف خدمته.

 

منذ اندلاع النزاع والأزمة في سوريا البلد الحدودي الرئيسي للبنان وتدفق أكثر من 1.5 مليون لاجئ سوري الى أراضيه، أو ما يقرب من 40 % من سكانها اللبنانيين، شهد لبنان انخفاضاً في معدل نموه الى 1 % في نهاية عام 2019 وزيادة في معدل الدين العام/ الناتج المحلي الإجمالي إلى أكثر من 176 %، وكذلك تدهور تصنيفه السيادي لدى وكالات التصنيف الدولية وعجزاً ملحوظاً في ميزان المدفوعات، وبالتالي شهد انخفاضاً مستمراً في احتياطاته من العملات الأجنبية، والتي تعتبر ضرورية للدفاع عن ثبات سعر الصرف. وتوقّع حاملو سندات اليوروبوندز الإعلان عن تخلف الدولة اللبنانية عن سداد الديون الإجمالية بالعملات الأجنبية والتي تبلغ نحو 30 مليار دولار، نصفها مملوكة من مصارف تجارية لبنانية (نحو 15 مليار دولار أميركي) و5.7 مليارات دولار في حوزة مصرف لبنان.

 

واضطر مصرف لبنان الى الاكتتاب في الوقت تفسه في غالبية سندات الخزينة بأسعار فائدة منخفضة لتقليل ثقل الدين العام الذي كانت حصته بالعملات الأجنبية تتزايد في استمرار مع إصدارات سندات اليوروبوندز، التي سعى إلى إعادة بيعها الى المصارف التجارية من خلال «الهندسات المالية» وإلى تجديد احتياطياته من العملات الأجنبية باستمرار للحفاظ على هامشها للتدخل في سوق الصرف الأجنبي واستمرار سعر الصرف الثابت الذي أثبت أنه الاستراتيجية الأكثر فاعلية للتحكم في استقرار القوة الشرائية. الجمود في الدولرة حتى بعد أكثر من 22 عاماً من استقرار سعر الصرف. ولقد أدت مشاركة القطاع المصرفي في سياساته إلى تضخيم مستوى انكشافه للقطاع العام من خلال اكتتابه بسندات الخزينة بالليرة اللبنانية والدولار وشراء شهادات الودائع من مصرف لبنان بالدولار المقدرة لدى بلومبيرغ بنحو 52.2 مليار دولار الذي يجب إضافته إلى نحو 17.5 مليار دولار من الاحتياطيات المطلوبة على ودائع العملات الأجنبية، أو نحو 70 مليار دولار لإجمالي الودائع بالعملات الأجنبية والتي كانت تبلغ نحو 120 مليار دولار مع اندلاع الأزمة، علماً أنه قبل اتخاذ إجراءات تقييدية على حركة رؤوس الأموال، يعاني لبنان منذ 2011 عجزاً في ميزان المدفوعات بلغ في نهاية عام 2019 نحو 4351 مليون دولار، بينما بلغ العجز التراكمي منذ عام 2011 نحو 14,515,9 مليون دولار (باستثناء عام 2016، حيث أصبح الرصيد فائضاً بنحو استثنائي بسبب «الهندسات المالية» لمصرف لبنان التي جعلت المصارف تستقطب رساميلاً بالدولار من الخارج للمشاركة فيها...).

 

في الوقت نفسه، كلما ازدادت مخاطر سداد سندات اليوروبوندز في نظر وكالات التصنيف الدولية كلما تدهور التصنيف السيادي الممنوح لسندات اليوروبوندز اللبنانية، الأمر الذي يتطلب زيادة أخرى في أسعار الفائدة لإقناع الدائنين المستقبليين بالاكتتاب في الإصدارات الجديدة، ما يساهم في نمط عرفه Ponzi بالتوازي مع الحفاظ على تأثير ثبات الثورة بذاكرة الأزمة السابقة في الثمانينات والفارق المنخفض في العائد بين الليرة اللبنانية والولايات المتحدة، بالإضافة إلى عجز تراكمي في ميزان مدفوعات لبنان منذ اندلاع الأزمة في سوريا عام 2011، ما نتج عنه تدفق صاف للعملات الأجنبية سنوياً من لبنان الى الخارج، وحَدّ من هامش تدخّل المصرف المركزي في السيطرة على استقرار الصرف.

 

يبقى القول انه إذا كانت عوامل المخاطرة وضعف الاستقرار السياسي أساسية في الضغوط على مجمل المؤشرات الاقتصادية، فمن غير الواقعي التطلّع الى مخارج إقتصادية بمعزل عنها. وقد برهنت تجارب السنوات الماضية أنّ كل المعالجات الظرفية ما كانت سوى إدارة أزمة لا بل مجرد تأخير لانفجارها، أمّا المعالجة الحقيقية فتحتاج التصويب الى مكامن الخلل لإيجاد المفاتيح المناسبة لحلول مستدامة.

فك لغز الكهرباء عبر نموذج الإدارة الجديدة..08-Apr-2021

 فك لغز الكهرباء عبر نموذج الإدارة الجديدة...

Thursday, 08-Apr-2021 06:06

https://www.aljoumhouria.com/ar/news/588794/%D9%81%D9%83-%D9%84%D8%BA%D8%B2-%D8%A7%D9%84%D9%83%D9%87%D8%B1%D8%A8%D8%A7%D8%A1-%D8%B9%D8%A8%D8%B1-%D9%86%D9%85%D9%88%D8%B0%D8%AC-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AF%D8%A7%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%AF%D9%8A%D8%AF%D8%A9?utm_source=editor&utm_medium=web&utm_campaign=listnews

تُعتبر الكهرباء، التي تمثل أحد أهداف التنمية المستدامة الـ17 للأمم المتحدة في رؤيتها لعام 2030، حاجة أساسية في كل مكان في العالم، باستثناء بعض البلدان النامية مثل لبنان، حيث تظلّ هذه الخدمة «ترفاً في ظلّ غياب القدرة على توفيرها، مع إصلاح القطاع العام والتردّد في تأمينها عبر الخصخصة وضعف الوعي للحلول الوسطية القائمة على نماذج الادارة الجديدة والشراكة بين العام والخاص NMP في هذه الحالة، وفي مواجهة القيود التي تتحمّلها الدولة لتأمين الكهرباء، تحتل الشراكة بين القطاعين العام والخاص (PPP) مركز الصدارة في المناقشات الاقتصادية الحالية، خصوصاً في لبنان، حيث تكثر التساؤلات حول أسباب فشل الاحتكار العام لـ»مؤسسة كهرباء لبنان»، والاضطرار الى «شرعنة» المولّدات الخاصة في الأحياء السكنية بدلاً من التعاون الشرعي مع القطاع الخاص... ما هو نموذج الإدارة العامة الجديد NMP ؟ وكيف يمكن ترجمته عبر الشراكة بين القطاعين العام والخاص، لمعالجة الوضع المتعثر لقطاع الكهرباء في لبنان؟

ـ الإدارة العامة الجديدة (NMP) نحو الشراكة بين القطاعين العام والخاص (PPP)

يهدف نموذج الإدارة العامة الجديدة إلى الإشراف على التكاليف التي تتحمّلها الدولة وخفضها، وبالتالي تقليل عجز الموازنة والدين العام. ويتمثل تيار NMP في دمج نماذج الإدارة المستخدمة في المجال الخاص مع تلك المعتمدة في القطاع العام. الشراكة بين القطاعين العام والخاص (PPP) هي واحدة من أكثر الأشكال شهرة، وBOT هي واحدة من أكثر أشكال الشراكة استخدامًا في قطاع الكهرباء والتي هي موضوع هذه المقالة.

 

الإدارة العامة الجديدة (NMP) هو طريق للتحول العام للكيان العام، الذي يتضمن اتخاذ القطاع الخاص مرجعاً، والذي يهدف إلى وضع قوانين وقواعد جديدة قابلة للتطبيق على استثمارات الدولة، في مجالات أخرى، بحيث أنّ النفقات المتعلقة بالاستثمارات العامة، لا ينبغي أن تُموّل من الدين العام.

 

أثّرت الآلية الوقائية الوطنية على البلدان بطرق مختلفة، وبالتالي لا يوجد نموذج واحد للآلية الوقائية الوطنية، ولكن على العكس من ذلك، هناك نماذج عدة يعتمد حجمها على كل بلد وثقافته.

 

لذلك، فإنّ الآلية الوقائية الوطنية لها وظيفة تحسين صورة القطاع العام.

 

والمعلوم وفق الأدبيات الاقتصادية، أنّ تفويض القطاع الخاص بعض المهمات، يؤدي إلى الشفافية والوضوح، وتقليل عدم تناسق المعلومات بين الإدارات العامة والسلطات السياسية.

خلال الثمانينات، واجهت بلدان عدة أزمات مالية، تميّزت بعجز عام كبير أدّى إلى زيادة المديونية.

 

علمياً وعملياً وبغية تحسين تلبية توقعات المواطنين (الناخبون ودافعو الضرائب والمستفيدون)، تلجأ الحكومات الى تنفيذ الإصلاحات. وتتميز هذه الإصلاحات في أنّ الإدارة العامة سارية المفعول للإشراف وخفض التكاليف وبالتالي تقليل عجز الموازنة والديون.

 

من هنا، انتشرت نماذج الإدارة المستخدمة في المجال الخاص في المجال العام، من خلال تشكيل تيار NPM للإدارة العامة الجديدة.

ـ الشراكة بين القطاعين العام والخاص في اعتبارها التوصية الرئيسية لخطة الإدارة الوطنية.

«تُعرَّف الشراكة بين القطاعين العام والخاص على أنّها مفهوم إداري، يسمح للدولة بأن تعهد إلى شركة خاصة تصميم المعدات العامة وتمويلها وبنائها وإدارتها وصيانتها لفترة محدودة طويلة، والتي تعتمد غالبًا على فترة إهلاك البنية التحتية وطرق التمويل».

 

يمكن أن يتخذ PPP أشكالًا مختلفة ويتناسب مع منطق NMP الجديد للإدارة العامة. ويحافظ المشغل على المشروع من بداية البناء، عبر مراحل عدة. يدير توريد المواد الخام (المدخلات) وشراء الإنتاج.

يحتاج أي مشروع شراكة بين القطاعين العام والخاص، مهما كان شكله، إلى مناخ استثماري من أجل نجاحه.

 

يوضح الرسم البياني أدناه مفاتيح مناخ الاستثمار المفضي إلى الشراكة المستدامة بين القطاعين العام والخاص:

 

خريطة رقم (1) و (2)

لدى NPM و PPP منطق مزدوج يرجع إلى أبعاد الميزانية والاقتصاد الكلي، ولكن أيضًا إلى أبعاد الاقتصاد الجزئي. علماً أنّ NMP ليست تراجعًا عن دور الدولة، وليست خصخصة كاملة، حيث تبيع الدولة المجال العام لمشغّل من القطاع الخاص.

 

يعتمد NPM على ركيزتين مهمين: الأولى هي أهمية الصلة الوثيقة مع الدولة، والثانية تقوم على تقييم الفعالية. لذلك يجب أن نجد حلاً فعّالاً للخدمة التي يجب تقديمها للمستخدمين.

 

السبب الرئيسي لاختيار الشراكة بين القطاعين العام والخاص هو البحث عن المهارات من الكيانات الخاصة، لأنّ الكيانات العامة لديها فجوة في المهارات والتدريب للموظفين، يحتاج الى تمويل تام ومتواصل، مما يدفع الدولة للتوجّه إلى كيان خاص لاكتساب المهارات وتقليل التكاليف المتعلقة بتدريب الموظفين في الادارة العامة. وفي حالة الشراكة بين القطاعين العام والخاص، فإنّ الدولة التي تفتقر إلى الكفاية تتحكّم في الخدمة وتراقب إدارتها بدلاً من تكبّد كلفة إنتاجها. ويمكن من خلال عقد الشراكة بين القطاعين العام والخاص خفض تكلفة الإنتاج من خلال خبرات القطاع الخاص وفعالية إدارته ووفورات الحجم التي يستفيد منها.

 

كما تسمح الاستعانة بمصادر خارجية بتقاسم المخاطر بين القطاعين العام والخاص. لذلك يتمّ تقاسم المخاطر المرتبطة بالإنتاج والنقل والتوزيع.

كما أنّ الشراكة بين القطاعين العام والخاص لها دور في تأمين موازنة الإيرادات والنفقات وتحرير الموازنة من عبء القطاع، وبالتالي الحل القاطع لمشكلة العجز فيها.

 

علماً أنّه لقياس السيطرة على المخاطر الناتجة من أنواع عقود الشراكة بين القطاعين العام والخاص، من الضروري ضمان إطار الموازنة والمحاسبة. كما أنّ من الأولويات إعطاء ضمانات مالية للشركة الخاصة لتوقيع العقد. تسمح الضمانات بخفض التكلفة الإضافية لديون الشركة الخاصة الراغبة في الاستثمار في المجال، مقارنة بتمويل الكيان العام. ويمكن أن تكون الضمانات رافعة فعّالة للاستثمارات العامة المختلفة، ما يسمح بتنفيذ الرافعة المالية على التمويل الخاص مع تقليل مخاطر خدمة الدين..

 

ـ BOT أنسب نموذج إدارة جديدة للكهرباء

عموماً، هناك نماذج عدة لمشاركة القطاع الخاص في قطاع الطاقة. في حالة لبنان، فإنّ النموذج الذي يحتل مركز الصدارة في النقاشات بهدف ضمان شراكة بين القطاعين العام والخاص هو نموذج BOT.

تتكون BOT من طريقة لتنفيذ المشاريع العامة في عدد من المجالات الاقتصادية والاجتماعية. BOT هي شكل من أشكال الامتياز، يعتمد على مشروع يُسمّى «تمويل المشروع»، وهو طريقة تمويل تستخدمها الحكومات في غالب الأحيان لتمويل مشروعها العام من دون اللجوء إلى الديون ووجود اختلال في الموازنة. في هذه التقنية، يتمّ ربط سداد المبالغ المستثمرة بالتدفقات النقدية الناتجة من المشروع.

 

الهدف من هذه الشراكة هو تصميم وبناء وتمويل واختبار وتقييم وتشغيل وصيانة، نتيجة للعقد المبرم مع الدولة.