jeudi 17 février 2022

«القاعدة الاثنا عشرية» عاشت «أحد عشر» عاماً... واستمر تخطي الانفاق العام (16 شباط 2022)

 القاعدة الاثنا عشرية» عاشت «أحد عشر» عاماً... واستمر تخطي الانفاق العام

Wednesday, 16-Feb-2022

https://www.aljoumhouria.com/ar/news/636569/%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%A7%D8%B9%D8%AF%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AB%D9%86%D8%A7-%D8%B9%D8%B4%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D8%B9%D8%A7%D8%B4%D8%AA-%D8%A7%D8%AD%D8%AF-%D8%B9%D8%B4%D8%B1-%D8%B9%D8%A7%D9%85%D8%A7-%D9%88%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D9%85%D8%B1-%D8%AA%D8%AE%D8%B7%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%86%D9%81%D8%A7%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%85?utm_source=editor&utm_medium=web&utm_campaign=listnews

د. سهام رزق الله (أستاذة محاضرة في جامعة القديس يوسف – كلية العلوم الإقتصادية)

ليس مفاجئاً بعلم الإقتصاد أن يفقد لبنان استدامة دينه العام، أي السيطرة على ديونه وإمكانية سدادها، بعد مراحل من افتقاد مستندات المالية العامة وعدم احترام المهل الدستورية للموازنات وغياب قطع الحسابات واعتماد ما يعرف بـ«القاعدة الاثني عشرية» على مدى سنوات والاستمرار بتخطي الانفاق العام خلالها وبعدها... كيف تترجم تحويل «القاعدة الاثني عشرية» من إجراء استثنائي لشهر واحد الى قاعدة بديلة عن الموازنة طيلة أحد عشر عاما؟ الجواب يتطلّب معرفة ماذا تعني «القاعدة الاثنا عشرية»؟ في أي أحوال يمكن اعتمادها ولأي مدة زمنية؟ كيف استخدمها لبنان على مدى سنوات؟ وكيف حصلت سلسلة عمليات تخطي الانفاق العام الى حين حدوث الانهيار المالي-النقدي-الاقتصادي الشامل؟

الاقتصاد علم يتطلّب المعرفة والموضوعية والدقة والشفافية للتمكّن من فهم معطياته وتناولها بأعلى درجات المسؤولية. ومن المعلوم أن إعداد الموازنة يعتمد على مبادئ أساسية معروفة : 1 - مبدأ سنوية الموازنة 2 - مبدأ وحدة الموازنة 3 - مبدأ عمومية الموازنة 4 - مبدأ عدم التخصيص 5 - مبدأ توازن الميزانية بين النفقات والايرادات.

وفق قانون المحاسبة العمومية، يفترض على وزارة المال أن ترسل كل سنة تعميما إلى الوزارات بحلول منتصف شهر نيسان، تذكّر فيه كل وزارة بضرورة إعداد الميزانية للسنة التالية وتضع على أساسها موازنة متكاملة تتضمن الإصلاح الاقتصادي ورؤية الدولة في ضوء مؤشرات الاقتصاد الكلي. يرفع كل وزير ميزانية وزارته إلى وزارة المالية مصحوبة بالمستندات المثبتة لها وتقرير يوضح الفروق بين مشروع الموازنة للعام القادم وميزانية العام الجاري. ويفترض أن تتلقى وزارة المالية هذا المشروع قبل نهاية شهر أيار.

يتم إعداد مشروع الموازنة بانتظام من قبل وزارة المالية ويعرضه وزير المال على مجلس الوزراء الذي يقرّه بصيغته ثم يودعه المجلس النيابي ضمن المهلة المحددة في الدستور.

يقدّم وزير المالية إلى السلطة التشريعية، قبل أول تشرين الثاني، تقريراً مفصلاً عن الحالة الاقتصادية والمالية في البلاد وعن المبادئ التي اعتمدتها الحكومة في مشروع الموازنة.

على خط مواز، يفترض أن تقوم وزارة المال بإعداد «قطع الحساب» العام السابق، وترسله إلى ديوان المحاسبة مرفقاً بحسابات المهمة (المستندات التي تثبت كل الأموال الداخلة والخارجة) لتجري مطابقتهما والتدقيق على أساس كل مستند مرفق... ثم يرسل ديوان المحاسبة «قطع الحساب» مرفقاً برأيه إلى البرلمان لإقراره قبل النظر بموازنة العام التالي.

بعد اقرار الموازنة في المجلس النيابي يتم نشرها في «الجريدة الرسمية» لتصبح قانونا قابلا للتطبيق.

ومن الضروري التمييز بين حسابات الموازنة (المتمثّل باعتمادات مالية وسقوف محددة للانفاق على أساسها خلال سنة قادمة) وحسابات الخزينة (أرصدة نقدية حقيقية يتم دفعها أو قبضها، وهي تشمل حسابات دفع وقبض أخرى إضافة الى حسابات الموازنة). هذا يعني أن كل إنفاق في حساب الموازنة يظهر في حساب الخزينة ولكن ليس العكس، لأن حساب الخزينة يشمل إضافة الى حساب الموازنة حسابات أخرى (مثل الانفاق الذي يتم على أساس موازنة عام سابق، سلفات الخزينة لمؤسسة كهرباء لبنان وغيرها من المؤسسات مثل البلديات، فروقات خدمة الدين العام أي الفوائد على الديون الأساسية... وهي ما يعرف بعمليات الخزينة التي يشملها حساب المهمة).

وبالتالي، ان «حسابات الدخول» لأي سنة مالية جديدة هي ذاتها «الأرصدة الختامية» للسنة المالية السابقة، ما يظهر في قطع حساب الموازنة وفي حساب المهمّة لتلك السنة. من هنا، نفهم الخلل الذي بدأ بعدم توفّر حسابات مهام سنوات الحرب بين 1979 و1993، فعاد انتظام عمل المالية العامة عام 1993 بدونها، وبما توفّر فقط من مستندات بين أرصدة نقدية لدى المحتسبين وصناديق مصرف لبنان والمصارف التجارية.

 

 

 

والواقع أنه بين عام 1962 وعام 1975، سنة بداية الحرب في لبنان، كانت جميع الميزانيات تعاني عجزاً، باستثناء موازنات الأعوام 1971 و 1972 و 1974 عشية اندلاع حرب 1975. ثم منذ عام 1975 وحتى اليوم، أصبحت الموازنات اللبنانية المتتالية تعاني عجزا ماليا.

وغاب قطع حسابات الموازنات العامة وحسابات المهمّة (حسابات الخزينة) بين عام 1979 وعام 1993.

وحديثاً، تكرّر الأمر بوقف قطع الحسابات المستمر منذ عام 2004 وحتى عام 2020.

مع تفاقم الحرب عام 1978، أصبح من الصعب الحصول على أرقام دقيقة وموثوقة تتعلق بالوضع الاقتصادي العام. وقد توقفت الدولة اللبنانية عن نشر إحصاءات الحسابات القومية، بسبب الأحداث وتوقف عمل العديد من الهيئات والدوائر العامة.

أكثر من ذلك، تمّ عام 1977 توقيع إتفاقية بين وزارة المالية وبين المصرف المركزي تجيز للحكومة الحصول على قروض استثنائية من المصرف المركزي، بغية تمويل تسيير أجهزة الدولة، وإعادة الإعمار. وقد رُفع سقف هذه القروض اكثر من مرّة بعد ذلك التاريخ. وكان ذلك يتمّ بموجب مادة في قانون الموازنة تجيز للحكومة تعديل الاتفاقية المذكورة بمرسوم. وقد بقي ارتفاع سقف هذه القروض محدوداً حتى العام 1982، إلّا انّ حقبة 1982- 1984، شهدت رفعاً لسقف التسليفات من المصرف المركزي للحكومة، بما يتجاوز ستة اضعاف ولوحظ أنّ الإنفاق العام تميز خلال سنوات الحرب بالفوضى وانعدام السيطرة المركزية. خلال تلك الفترة، لم تكن الدولة تعرف بشكل دقيق لا مقدار نفقاتها ولا ناتج إيصالاتها، ولهذا توقفت عن إغلاق حسابات الموازنة من 1979 إلى 1993.

بعد عام 1985، وجد لبنان نفسه بلا ميزانية، ولم تعد الحكومة ترسل مشروع الموازنة إلى مجلس النواب على النحو المنصوص عليه في الدستور. في الوقت نفسه، واصلت الدولة الإنفاق على أساس الاعتمادات المنصوص عليها في الموازنة الأخيرة التي صادق عليها مجلس النواب، أي موازنة عام 1985. غير أنّ التضخم والانخفاض السريع في قيمة الليرة اللبنانية جعلا هذه الاعتمادات منصوصاً عليها في موازنة عام 1985، غير كافية لتغطية نفقات الدولة. ومنذ ذلك الحين، أقرّ البرلمان إمكانية التصويت على قوانين تسليفات إضافية لموازنة عام 1985، أو اللجوء إلى طلب سلفات خزينة.

وبعد غياب الموازنة لمدة 5 سنوات، اتّسمت نهاية عام 1990 بإصدار الموازنة العامة. تحسن وضع المالية العامة نسبيًا، لكن استمرار العجز أدّى إلى نمو قوي في الدين العام الداخلي الذي زاد بنسبة 66 % عام 1991 و92 % عام 1992.

في نهاية العام 1992 كان مجموع الدين العام الثابت المتوجب على الخزينة اللبنانية يعادل نحو 3 مليارات دولار أميركي، منه 327.5 مليون دولار أميركي والباقي بالليرة اللبنانية، قبل أن تعود وتستقيم الموازنات ابتداء من العام 1993، قبل أن يتوقّف من جديد إقرار الموازنات بعد إقرار موازنة عام 2005 في شباط 2006 وحتى العام 2016. وتوقّف من جديد قطع الحسابات وتم «اعتماد القاعدة الاثني عشرية طيلة هذا السنوات، فعادت الموازنات عام 2017 وأيضا من دون قطع حساب، علما ان الدستور اللبناني في المادة 86 أجاز للحكومة في الظروف الاستثنائية أن تنفق في شهر كانون الثاني من السنة الجديدة على القاعدة الاثني عشرية. وإنّ تسمية «الإثنا عشرية» لا تعني 12 شهرا من السنة القادمة بل شهر واحد من السنة الجديدة على أساس تقسيم الصرف للأشهر الاثني عشر السابقة.

الحد الأدنى من المنطق يحسم مسبقا أنه لا يمكن تثبيت الانفاق المقر في موازنة 2005 واعتماده نفسه من سنة الى سنة بدءا من العام 2006 وفق «القاعدة الاثني عشرية» نظرا لتغيّر مختلف التكاليف (بسبب التضخّم، تسديد فروقات سلسلة الرتب والرواتب وغلاء المعيشة، زيادة الفوائد المدفوعة سنويا على أصل الدين العام) وحدوث دفعات إضافية غير مرتقبة مثل تكاليف لإعادة الاعمار بعد حرب تموز 2006، فضلاً عن زيادة كلفة الدعم للكهرباء عبر سلفات الخزينة خاصة مع ارتفاع أسعار المحروقات...

من هنا، وبدءا بالعام 2006 لم تلتزم الحكومات المتعاقبة بأرقام موازنة عام 2005، واضطرت الى تخطي الأنفاق الذي كان مرتقبا فيها، والذي كانت تصرف على أساسه وفقاً للقاعدة الاثني عشرية.

وبذلك يتجاوز مجموع الانفاق المحقّق من الموازنة والخزينة بين 2006 و2009 حدود انفاق موازنة 2005 مضروبا بأربعة (وفق القاعدة الاثني عشرية) بمبلغ 16234 مليار ليرة، أو ما كان يعادل حينها 10.8 أي تقريبا 11 مليار دولار (وفق سعر صرف 1500 ليرة للدولار الواحد) الذي دار سجال كبير حوله.

واستمر في السنوات التالية تخطي سقف الانفاق على أساس القاعدة الاثني عشرية وفق آخر موازنة 2005 ليقارب 7600 مليارات عام 2011، وقد تمّت تغطية الانفاق الإضافي بقوانين في مجلس النواب منها: عام 2012 فتح اعتماد إضافي على موازنة 2005 وإجازة إصدار سندات خزينة بالعملات المحلية والاجنبية لتغطية العجز مع تخطي الانفاق الفعلي بين حساب الموازنة والخزينة حدود الـ20 ألف مليار ليرة واستمر بالارتفاع بعد إقرار عام 2014 قانون مماثل بفتح اعتماد اضافي وبإجازة المزيد من الاستدانة لتغطية العجز مع تخطي الانفاق حدود الـ21 ألف مليار ليرة...

في عامي 2015، 2016 أقر مجلس النواب اعتمادات اضافية سنوية بحدود 15 ألف مليار ليرة زيادة عن مبلغ الـ10 آلاف مليار ليرة لبنانية الذي اعتمد عام 2005...الى أن عاد إقرار الموازنات بدءا من العام 2017 باعتماد مجموع إنفاق مقدّر للموازنة العامة يتخطى الـ24 ألف مليار ليرة لبنانية...

يبقى القول انّ تحييد نفقات من هنا وتفادي احتساب عجز من هناك وزيادة اعتماد من هنالك لا تؤمن استقرارا ماليا بل تؤدي الى زيادة الدين وفقدان السيطرة عليه كما حصل تماما. لا يمكن تسيير شؤون البلدان بالـ"الترقيع" لا على القاعدة الاثني عشرية ولا على ما يشبهها، بل تحتاج البلدان الى إقرار موازنات سنوية وقطع حسابات فعلية، وتبقى العبرة لمن اعتبر...

حساب الدين العام في غياب قطع الحسابات: تفصيل المكونات ومعدلات الفوائد (7 شباط 2022)

حساب الدين العام في غياب قطع الحسابات: تفصيل المكونات ومعدلات الفوائد

Monday, 07-Feb-2022 https://www.aljoumhouria.com/ar/news/635302/%D8%AD%D8%B3%D8%A7%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%85-%D9%81%D9%8A-%D8%BA%D9%8A%D8%A7%D8%A8-%D9%82%D8%B7%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B3%D8%A7%D8%A8%D8%A7%D8%AA-%D8%AA%D9%81%D8%B5%D9%8A%D9%84-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%83%D9%88%D9%86%D8%A7%D8%AA-%D9%88%D9%85%D8%B9%D8%AF%D9%84%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%88%D8%A7%D9%8A%D8%AF?utm_source=editor&utm_medium=web&utm_campaign=listnews

Monday, 07-Feb-2022

د. سهام رزق الله (أستاذة محاضرة في جامعة القديس يوسف – كلية العلوم الإقتصادية)

شكّلت إشكالية الدين العام في لبنان مادة سجال دسمة، تبارز فيها اجتزاء المراحل والمكوّنات مع اختلاط قراءة الأرقام بين التوقعات الاستباقية والأرقام الفعلية، في ظلّ محطات من غياب استدامة إقرار الموازنات وقطع الحسابات في محطات عديدة. بعد الانهيار المالي الشامل، لا بدّ من قراءة مفصّلة وفق القواعد الإقتصادية والصدقية العلمية، تسمح بتفنيد دقيق للمعلومات المتوفّرة حول الدين العام وأبرز عناصر تطوّره، قبل أن يفقد إستدامته. متى وكيف بدأ خلل المالية العامة؟ في أي محطات غابت فيها الموازنات وقطع الحسابات؟ وكيف تطوّر الدين وأي تواريخ بارزة في هذا المسار؟

 

منذ نيل لبنان إستقلاله وحتى العام 1962 كانت موازناته العامة تقليدياً تسجّل فوائض، ولم يكن يعرف إشكالية البحث عن تمويل العجز ولا القلق من سبل تمويله. وقد اعتُبر عام 1962 عام التحوّل من فائض الى عجز المالية العامة في لبنان للمرة الاولى بمعدّل 13.2% من النفقات. بين عام 1962 حتى عام 1975، عندما بدأت الحرب في لبنان، كانت جميع الميزانيات تعاني من عجز، باستثناء موازنات الأعوام 1971 و 1972 و 1974 عشية اندلاع حرب 1975. منذ عام 1975 وحتى اليوم، أصبحت الموازنات اللبنانية المتتالية تعاني من عجز مالي. علماً أنّ الموازنة تقدّم كل سنة الأرقام «المتوقعة» للسنة التالية، في حين يعطي «قطع الحساب» الأرقام «الفعلية» للسنة المنصرمة. أول غياب لقطع حسابات الموازنات العامة وحسابات المهمّة (حسابات الخزينة) كان بين عام 1979 وعام 1993. وحديثاً تكرّر الأمر بوقف قطع الحسابات المستمر منذ عام 2004 وحتى عام 2020.

وتميّزت حقبة 1983- 1984 بتنامي عجزين: عجز المالية العامة وعجز ميزان المدفوعات. أما الاقتراض من المصرف المركزي، فقد أجازته إتفاقية عُقدت بين وزارة المالية وبين المصرف المركزي في العام 1977، سمحت للحكومة بأن تحصل على قروض استثنائية، بغية تمويل تسيير أجهزة الدولة، وإعادة الإعمار. وقد رُفع سقف هذه القروض اكثر من مرّة بعد ذلك التاريخ. وكان ذلك يتمّ بموجب مادة في قانون الموازنة تجيز للحكومة تعديل الاتفاقية المذكورة بمرسوم. وقد بقي ارتفاع سقف هذه القروض محدوداً حتى العام 1982، إلّا انّ حقبة 1982- 1984، شهدت رفعاً لسقف التسليفات من المصرف المركزي للحكومة، بما يتجاوز ستة اضعاف. ففي حين كان سقف هذه التسليفات يساوي 2500 مليون ل.ل. بتاريخ 18 ايلول 1982، اصبح يساوي 16000 مليون ل.ل. في آخر العام 1984. وقد ارتفع حجم الدين العام نتيجة ذلك من أقل من 7 مليارات ل.ل. في آخر العام 1981، إلى أكثر من 14 مليار ل.ل. في آخر العام 1982.

واضطرت الدولة إلى اللجوء إلى الديون الخارجية والداخلية لتمويل تطوير المشاريع التي توقف تنفيذها. ومن أجل تمويل عجز الميزانية المتزايد في مناخ من التوترات وعدم الاستقرار السياسي والأمني، أصبح العرض النقدي وطباعة العملة منذ عام 1982 يتجاوز بشكل واضح الاحتياجات الاقتصادية للبلاد، وتترجم ذلك بانطلاق مسار التضخّم حتى بلوغ التضخّم المفرط بمجمل 487% عام 1987 و»هروب» الناس الاختياري باتجاه «الدولرة» وفرضها كأمر واقع..

بعد عام 1985، لم تعد الحكومة ترسل مشروع الموازنة إلى مجلس النواب على النحو المنصوص عليه في الدستور. وأقرّ البرلمان إمكانية التصويت على قوانين تسليفات إضافية لموازنة عام 1985، أو اللجوء إلى طلب سلفات خزينة.

وقد فرضت الدولة على المصارف إلزامية الاكتتاب بسندات الخزينة على مواردها من الليرة اللبنانية. وأدّت خاتمة فترة الحرب في عامي 1989 و 1990 إلى تفاقم وضع المالية العامة وأدّى انخفاض الإيرادات الضريبية إلى اعتماد الخزينة العامة، بالإضافة إلى الديون، على أرباح مصرف لبنان التي يتمّ تحويلها إليه بموجب قانون النقد والتسليف. وبلغت حصة أرباح مصرف لبنان في تمويل الخزينة حوالى 62% من إيرادات الموازنة في عام 1989 و 38.5% من إيرادات الموازنة في عام 1990.

رسم رقم (12)

وبعد غياب الموازنة لمدة 5 سنوات، اتسمت نهاية عام 1990 بإصدار الموازنة العامة. تحسن وضع المالية العامة نسبياً، لكن استمرار العجز أدّى إلى نمو قوي في الدين العام الداخلي الذي زاد بنسبة 66% عام 1991 و 92% عام 1992. في نهاية العام 1992 كان مجموع الدين العام الثابت المتوجب على الخزينة اللبنانية يعادل نحو 3 مليارات دولار أميركي، منه 327.5 مليون دولار أميركي والباقي بالليرة اللبنانية.

وابتداءً من العام 1993 وحتى العام 2005 انتظم من جديد العمل المؤسساتي في المالية العامة وعُرفت موازنة العام 2005 بـ»الموازنة الإصلاحية»، وترافقت مع آخر قطاع حساب عن العام 2004، قبل أن يتوقّف صدور قطوعات الحسابات من جديد ويستمر غيابه الى اليوم! لا بل توقّف أيضاً إقرار الموازنات المالية من العام 2005 حتى العام 2016، قبل أن يُعاود صدور الموازنات عام 2017 ولكن دون قطع حسابات.

مجموع الإنفاق ما بين العام 1993 والعام 1998 كان يتوزع بين: الدعم لمؤسسة كهرباء لبنان؛ المبالغ المخصّصة لصندوق المهجرين ولمجلس الجنوب؛ رواتب وأجور لموظفي القطاع العام ومعاشات التقاعد؛ خدمة الدين العام...

عام 2011 كان عام انقلاب كل المؤشرات الاقتصادية في لبنان، تزامن مع انقلاب مناخ الاستقرار السياسي، تبدّل مسار مؤشر الدين العام/الناتج المحلي ليعاود ارتفاع بعد سنوات من الانخفاض المتتالي، وكان قطاع الكهرباء يراكم سلفات بالدولار الأميركي وفوائد عليها تخطّت 18 مليار دولار حتى العام 2011 مما رفع الدين بالدولار لأكثر من 21 مليار دولار. واستمرت الكهرباء بتسجيل عجز مالي سنوي بحوالى 2 مليار دولار وتتراكم عليها الفوائد حتى باتت تفوق الـ43 مليار دولار. مع الإشارة الى الفرق بين حسابات الموازنة وحسابات الخزينة، حيث أنّ وزارة المال لا تكتفي بعمليات الموازنة بل تتولّى أيضاً عمليات الخزينة التي تشمل بين سواها دفع سلفات خزينة لمؤسسة كهرباء لبنان ولسائر المؤسسات والبلديات وفروقات الدين العام.

نسبة إجمالي الدين العام المستحق إلى الناتج المحلي الإجمالي في لبنان أصبحت من بين أعلى المعدلات في العالم. في عام 2006، بلغت نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي ذروة بلغت 183%. وتراجعت النسبة تدريجياً لتصل إلى 131% في عام 2012 وتعاود المسار التصاعدي المتواصل.

بين عامي 1993 و 2001، اعتمدت الحكومة اللبنانية في البداية على الاقتراض الكبير من السوق المحلية، وشكّلت الديون بالليرة اللبنانية حوالى 81.3% من إجمالي الدين.

وقد تمّ إجبار المصارف على الاكتتاب بسندات الخزينة حتى 60% من إلتزاماتها بالليرة اللبنانية، وخُفّض المعدل إلى 40% في عام 1994 ثم أُلغي في عام 1997.

من عام 2002 إلى عام 2008، تصاعدت حصّة الديون بالعملات الأجنبية مع بدء مؤتمر باريس الذي عُقد في شباط 2001، فشكّل متوسّط الديون بالعملات الأجنبية 49.1% من إجمالي الدين من 2002 إلى 2008. وعاود الدين بالليرة اللبنانية النمو ليشكّل من 2010 إلى 2018 متوسّط 60.25% من مجموع الدين.

وبلغت عائدات الدين بالعملة المحلية، خصوصاً على سندات الخزينة عن عام وعامين، مستويات عالية تخطّت 30% في التسعينيات. واشترك اللاعبون المحليون بشكل رئيسي في الديون بالعملة المحلية على أساس عائد مرتفع لتعويض المخاطر العالية. على هذا النحو، تأثرت عائدات سندات الخزينة اللبنانية لعامين، التي احتفظت المصارف المحلية بمعظمها بعائد 33.6% في آب وأيلول 1992، قبل أن ينخفض تدريجباً الى حدود 7.1% مطلع العام 2019.

علماً أنّه بدءاً من العام 2016 أصبح الاتجاه الى خفض خدمة الدين العام باعتماد سياسات نقدية غير تقليدية عُرفت بـ»الهندسات المالية» بالتوافق بين وزارة المال والمصرف المركزي والمصارف اللبنانية، بغية استبدال تدريجي لجزء من الدين بالليرة بدين بالدولار (يوروبوند)، كون الفوائد على اليوروبوند أقل من الفوائد على سندات الخزينة بالليرة اللبنانية نظراً لفارق عامل المخاطرة بين العملتين.

وبين الفوائد المرتفعة التي كان يتمّ دفعها لتوظيفات المصارف في مصرف لبنان، والفوائد الأقل التي كان ينالها المصرف المركزي مقابل توظيف جزء من هذه الأموال في عمليات شراء سندات الخزينة، كان مصرف لبنان يتحمّل فارق الفوائد كخسائر في الموازنة طوال السنوات الماضية. وكانت مختلف التوترات السياسية تضغط على مناخ الثقة للاستثمار وتدهور تصنيف لبنان السيادي لدى مؤسسات التصنيف «فيتش»، «موديز» و«ستاندرد أند بورز»، مما يؤدي الى رفع الفوائد لتعويض المخاطر..

اليوم قارب مجموع الدين العام الـ100 مليار دولار وفق الأرقام الرسمية الصادرة عن وزارة المال، إنما فعلياً فقط أقل من ثلثه بالدولار الأميركي والباقي هو بالليرة، وقد تدنت قيمته كثيراً إذا تمّ تقويمه على أساس سعر الدولار في السوق.

 

يبقى أنّ الدين العام كما مجمل الإشكاليات الإقتصادية، لا يمكن قراءته بمعزل عن الإشكاليات السياسية التي أحاطت به ورافقته، من منطلق تأثيرها المباشر على المناخ الاستثماري وثقة المموّلين وعامل المخاطرة الذي يُترجم بمعدلات فوائد الدين لإقناع المكتتبين.. وإذا كان حساب الدين مسألة علمية مستندة الى حسابات تقنية، إلّا أنّ المحاسبة عليه تتطلّب بإلحاح تسلسلاً متكاملاً في قطع الحسابات، لأنّ المالية العامة لا تكتفي بموازنات متوقعة بل تحتاج أرقاماً فعلية مثبتة.