mercredi 3 février 2021

أين إعادة الودائع من إعادة رسملة المصارف؟...Wednesday, 03-Feb-2021

 

أين إعادة الودائع من إعادة رسملة المصارف؟

https://www.aljoumhouria.com/ar/news/576235/%D8%A7%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D8%B9%D8%A7%D8%AF%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%AF%D8%A7%D9%8A%D8%B9-%D9%85%D9%86-%D8%A7%D8%B9%D8%A7%D8%AF%D8%A9-%D8%B1%D8%B3%D9%85%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B5%D8%A7%D8%B1%D9%81?utm_source=editor&utm_medium=web&utm_campaign=listnews

Wednesday, 03-Feb-2021 

إستقطبت المتابعين للوضع المصرفي في لبنان قضية إعادة رسملة المصارف وإعادة هيكلة القطاع وإعادة النظر بانخراطه في تمويل الدولة، فيما الهاجس الأساسي للناس يكمن في كيفية إعادة الودائع! فما هي أهمية استحقاق زيادة رسملة المصارف وزيادة احتياطاتها لدى المصارف المراسلة؟ وأين «يصرف» المودعون حصيلة كل التعاميم المتلاحقة؟ إنّ القراءة المتأنية تتطلّب تحديد إشكالية أزمة ودائع الناس لدى المصارف وأزمة المصارف في توظيفاتها من جهة، ثم تحديد مدى انعكاس الاجراءات الجديدة على تخفيف المخاطر عن المودعين أو المساهمة في تحسين الدفاع عنها من جهة أخرى.

 

أمام عتبة استحقاق شباط 2021 الذي يوجِب على المصارف، وفق تعاميم المصرف المركزي، توفير سيولة بنسبة 3% من ودائعها بالعملات الأجبنية لدى المصارف المراسلة وزيادة رأسمالها بنسبة 20%، لا بد من التذكير أنّ النشاط المصرفي بمجمله لقانون التجارة (1942) ولقانون النقد والتسليف (1963)، وأنّ المصارف والمؤسسات المالية الأخرى في لبنان تعمل تحت إشراف مصرف لبنان، أي المصرف المركزي الذي يشكّل السلطة النقدية الناظمة لعمل المصارف في البلاد. فالمصرف المركزي هو مصرف المصارف ومصرف الدولة في آن، وهو الذي يمنح الترخيص لإنشاء مصارف جديدة، ويحدّد مجال عملها، ويرسم أصول المهنة ويفرض القواعد الاحترازية التي ينبغي أن يعتمدها القطاع.

 

أما الهيئة الرقابية فتتمثّل في لجنة الرقابة على المصارف التي أُنشئت في العام 1967، والتي تتولّى مراقبة نشاط المصارف، وتتأكّد من حسن تطبيق القوانين والأنظمة المرعية.

 

ولقد ازدهر القطاع المصرفي في ستينات القرن العشرين، وهي المرحلة التي شهدت انطلاقة هذا القطاع وانتعاشه، إلى أن حصلت أزمة بنك انترا (1966).

 

وقد أعقبتها فترة الإزدهار النسبي قبل تجمّع عوامل أزمة الثمانينات التي اقتصرت على التضخّم المفرط وتدهور سعر صرف الليرة، كون المصارف لم تكن بعد غارقة في تمويل القطاع العام العاجز عن التسديد، لا سيما في العملة الأجنبية، كما أصبحت عليه الحال تِباعاً منذ منتصف التسعينات، وبدأ انكشافه مع تراكم عجز ميزان المدفوعات وتقلّص الدولارات في البلد وانغماس القطاع المصرفي في استقطابات الدولار لتمويل كّل من الدولة (عبر الاكتتاب بالأوروبوند) وحاجات المصرف المركزي (عبر شراء شهادات الايداع بالدولار الأميركي لتعزيز احتياطي مصرف لبنان بالدولار، الضروريين لاستمرار الدفاع عن ربط سعر الصرف بحدود 1507.5، بغضّ النظر عن كل تدهور المؤشرات الماكرو-اقتصادية وعجوزات ميزان المدفوعات، وإن لتلبية احتياجات الاستيراد في بلد يشكّل فيه الاستيراد أكثر من 80% من الاستهلاك، ويتم فيه تعويم نمط عيش أعلى من إمكانية معظم المواطنين بين مروحة القروض التي تم إغراق معظم المواطنين فيها بالدولار الأميركي لشراء السيارات والمفروشات والسفر والسياحة، وحتى عمليات التجميل... من دون أدنى تحذير لهم نظراً لأنّ معظمهم من أصحاب الرواتب المتواضعة بالليرة اللبنانية، التي يستحيل أن تصمد إزاء أي تدهور في سعر الصرف. وها هي السلطات النقدية قد اضطرت لفرض استمرار تسديدها حتى اليوم على أساس سعر الصرف 1507.5..)، فباتت المصارف في المقابل عاجزة عن استرداد دولاراتها الموظف منها لدى الدولة على شكل يوروبوندز، أو لدى المصرف المركزي على شكل شهادات إيداع بالدولار، أو لدى هذه الشرائح من القطاع الخاص من مواطنين اقترضوا بالدولار وبالكاد رواتبهم بالليرة تسمح لهم التسديد على سعر الصرف القديم.

 

الانكشاف السيادي للمصارف اللبنانية

أبعد من سندات اليوروبوندز التي تحملها المصارف اللبنانية بالدولار الأميركي واليوروبوندز التي يحملها المصرف المركزي، من الضروري الإشارة الى أنّ الجهاز المصرفي اللبناني لديه مصادر قلق أخرى من الانكشاف السيادي. فبالإضافة إلى اليوروبوندز التي يحملها القطاع المصرفي، تُظهِر أرقام وكالة «بلومبرغ» أن المصارف اللبنانية اشترت شهادات إيداع بالدولار الأميركي من المصرف المركزي حتى باتت عليه التزامات بقيمة 52.5 مليار دولار على شكل ودائع بالعملات الأجنبية وشهادات إيداع بالدولار الأميركي يعود معظمها الى المصارف اللبنانية، أي أنها توظيفات من مجموع مدّخرات المودعين اللبنانيين بالعملات الأجنبية. وعلى رغم أنّ القليل من شهادات الايداع يستحق هذا العام أو العام المقبل، فإنّ أكثر من 8 مليارات دولار تستحق في 2022 و2023.

 

كذلك، من المفيد الاشارة الى أنّ معدل الاحتياطي الالزامي على الودائع بالعملات الأجنبية لدى المصارف هو 15%، ما يعني أنّ مقابل مجموع الودائع بالعملات الأجنبية لدى المصارف، التي انخفضت من 120 قبل اندلاع الأزمة الى حوالى 112 مليار دولار اليوم، انخفضت الحاجة الى الاحتياطي الالزامي لدى مصرف لبنان من 18 الى 17 مليار دولار (15% من الودائع بالدولار الأميركي) على شكل احتياطي إلزامي بالعملات الأجنبية، تُضاف الى الأعباء بالعملات الأجنبية التي يفترض أن تكون لدى المصرف المركزي إمكانية تغطيتها (علماً أنّ معدل الاحتياطي الالزامي هو 25% على الودائع الجارية بالليرة اللبنانية و15% على الودائع المجمّدة بالليرة اللبنانية).

 

القروض المتعثّرة للمصارف وجمود النشاط الاقتصادي

الى جانب الانغماس بالانكشاف على الدين السيادي للدولة وشهادات الايداع بالعملات الأجنبية، تواجه المصارف اللبنانية مخاطر انعكاسات جمود النشاط الاقتصادي وتوقّف الطلب على التسليفات، كما توقف تدفّق الرساميل من الخارج وزيادة الودائع في الداخل، والتوجّه المعاكس نحو تقليصها أكثر من قبل أصحابها الى الحد الأدنى الممكن، إن من خلال استخدامها لسدادٍ مُسبَق لتسليفاتهم أو السحوبات المستمرة بالدولار الأميركي في بداية الأزمة كما بالليرة اللبنانية حالياً ولو على سعر المنصة 3900، أو حتى من توجّه كثيرين الى ما يُعرف بأدوات الحماية من المخاطر عبر شراء الذهب أو الاستثمار العقاري.. علماً أنّ لهذا الأخير إيجابيات كثيرة، لا سيما في تسييل عقارات كانت مجمّدة بفعل الأزمة فيما أصحابها مديونون للمصارف ويهمّهم إطفاء أكبر جزء من ديونهم ولو بشيكات مصرفية، بغض النظر عن إمكانية سحبها نقداً.

 

من هنا، تفتح الأزمة الاقتصادية باب مخاطر القروض المتعثّرة لدى المصارف، والتي لا تقلّ أهمية عن مخاطر الانكشاف السيادي، مع الاشارة الى أن التسليفات المصرفية بالعملات الأجنبية للقطاع الخاص اللبناني تتراوح بحدود 30 مليار دولار، وتسعى تعاميم المصرف المركزي على احتوائها من خلال العمل على وضع سقوف على الفوائد الدائنة، وتخفيض الفوائد المدينة بشكل مباشر، وتوجيه المصارف لإعادة هيكلة الديون المتعثّرة عبر إطالة الأجال، وإعادة النظر بالشروط الى جانب الالتزام بالتعاميم الجديدة الصادرة عن المصرف المركزي، والتي تنص على تخفيض معدلات الفوائد...

 

كما أنّ الإجراءات الحالية من ضبط حركة الرساميل بسبب الأزمة في غياب نص قانوني جامع وضوابط موحّدة، جمّدت كلياً إقدام غير المقيمين وحتى المغتربين عن إرسال التحاويل، لا بل أدت الى قلق المقيمين على ودائعهم، إن كان بالعملات الأجنبية أو حتى بالليرة اللبنانية، ما يدفعهم يومياً الى نشاط مصرفي باتجاه واحد هو سحب الأموال وتخزين الأوراق النقدية إن كان بالدولار أو حتى بالعملة الوطنية، ما ينسف النظام المصرفي ككل ويدفع باتجاه الاقتصاد النقدي cash economy، فيضرب إمكانية استعادة المصارف دورها في التسليف أيّاً كانت شروطها لافتقاد ثقة العملاء بإيداعها مدّخراتهم.

أزمة السيولة بالدولار وتراكم عجز ميزان المدفوعات وازدواجية سعر الصرف

تعتمد المصارف اللبنانيّة على حساباتها لدى المصارف المراسلة في الخارج (القطاع المالي غير المقيم) لشراء الدولارات الورقيّة وشحنها إلى لبنان، لتأمين السحوبات النقديّة لزبائنها. كما تعتمد المصارف على هذه الحسابات لسداد ديونها في الخارج، وإجراء الحوالات لعملائها، خصوصاً بعد تشدد مصرف لبنان في استعمال الاحتياطي المتوفّر لديه من العملة الصعبة.

 

وتبيّن الميزانيّات المجمّعة للمصارف اللبنانيّة أنّ هذه المصارف خسرت خلال عام 2019 وحده ما نسبته 43.56% من قيمة حساباتها لدى القطاع المالي غير المقيم (أي المصارف المراسلة)، فضلاً عن انعكاس أثر السحوبات النقديّة الكثيفة والمستمرّة منذ 17 تشرين الأوّل 2019. وكان واضحاً أنّ استمرار المصارف في توفير السحوبات النقديّة لعملائها بالدولار سيكون مسألة متعذّرة خلال الفترة المقبلة، إلا إذا سمح مصرف لبنان باستعمال الاحتياطي الذي يملكه من العملة الصعبة لهذه الغاية، والذي يمثّل كما سبق وذَكَرنا جزءاً من ودائع المصارف بالعملات الأجنبية لديه عبر شرائها لشهادات الايداع بالعملات الأجنبية...

 

وعلى خط مواز، وحتى قبل اتخاذ الإجراءات المكبّلة لحركة الرساميل، كان لبنان يعاني في السنوات الأخيرة، وتحديداً منذ العام 2011، انقلابَ وضعِ ميزان المدفوعات وتحوّله الى سلبي بشكل مستمر مع تراجع ميزان الرساميل وعدم إمكانيته التعويض عن العجز الهائل في الميزان التجاري الذي تخطى سنوياً 17 مليار دولار أميركي.

 

هذا التراجع في استقطاب العملات الاجنبية وعجوزات ميزان المدفوعات كانا يضغطان بشكل متزايد على سوق القطع، الذي يعتمد منذ عام 1997 على ربط سعر صرف الليرة اللبنانية بالدولار الأميركي على أساس 1507.5 ليرة للدولار. إلّا أنّ انفجار الأزمة ومحدودية الاحتياطي بالعملات الأجنبية وأولويات استخدامه بين تلبية استحقاقات داهِمة بالدولار الأميركي قبل بَت إعادة هيكلة الدين العام وتمويل استيراد مواد أساسية من قمح ودواء ولوازم طبية ومشتقات نفطية، في ظل تزايد الطلب على الدولار في السوق، جَمّد إمكانية الصرف في القطاع المصرفي الذي أبقى على السعر الرسمي 1507.5 من دون إمكانية التحويل في المصارف ولا التحويل الى الخارج، حتى تضاعَف الطلب على الدولار لدى الصرافين، وأفلتَ السوق من إمكانية ضبطه فظهرَ سعراً موازياً للدولار أعلى من السعر الرسمي، فتهاوى معه الهدف الأساسي للمصرف المركزي المتمثّل بحماية القدرة الشرائية والاستقرار النقدي من تقلبات سعر الصرف وموجات التضخم.

 

أفق مخارج الأزمة وانعكاساتها على المودعين

بين تعاميم البنك المركزي لزيادة الرسملة وزيادة السيولة لدى المصارف المراسلة بنسبة 3%، قد تتمكن بعض المصارف من تعزيز وضعها في السوق، لا سيما تلك التي تبيع أصولها في الخارج. لكنّ التعاميم تسمح بإعادة تقويم العقارات التي تملكها المصارف كجزء من موجوداتها الأساسية والموجودات التي استحوذت عليها من المقترضين مقابل القروض المتعثّرة، واستعمال الارتفاع في قيمة العقارات لتحقيق الزيادة المطلوبة في الرساميل، ما يجعل تحقيق زيادة الرساميل مسألة دفتريّة ومحاسبيّة لا تحقق أي تغيير في سيولة المصارف وقدرتها على سداد التزاماتها للمودعين حالياً بانتظار تحسّن وضع القطاع العقاري والتمكّن من تسييلها.

 

أمّا عجز المصارف في التزاماتها لدى المصارف المراسلة في الخارج، فيجعل من الصعب عليها تحرير فائض من زيادة السيولة لإحداث أي حَلحلة لجهة تحرير ودائع زبائنها بالدولار الأميركي.

 

أما عودة الانتظام إلى القطاع فتتطلّب خطة متكاملة على مستوى الحكومة، وتحديد الخسائر المنتظرة في القطاع والطريقة العادلة لتوزيعها من جهة أخرى، على أن تكون عمليّة إعادة هيكلة المصارف وإعادة رسملتها إحدى أجزاء هذه الخطة الكاملة.

 

هذه الخطة تتطلّب إعادة هيكلة القطاع المصرفي وإعادة رسملته، مع التشديد على ضرورة الضخّ المباشر للأموال في رؤوس أموالها من المساهمين، علماً أنّ هوية المساهمين وإمكاناتهم وإرادتهم لها تأثيراتها الأساسية في إمكانية تحقيق هذه الخطوة، فضلاً عن إمكانية دخول المستثمرين الجدد في المرحلة التالية، ما يجعل إعادة هيكلة القطاع أمراً ملحّاً قبل التوجّه الى مستثمرين جدد أو حتى لاستمزاج كبار المودعين بالمساهمة في زيادة الرساميل، ليكون معروفاً أي مصارف، أو بالأحرى أي مجموعات مصرفية، ستكون محتلّة المشهد الجديد للقطاع.

 

وإذا كانت أبرز التحديات المستقبلية أمام المصارف اللبنانية تكمن في اكتساب الثقة لاسترجاع الأموال المخزّنة في المنازل من جهة وإعادة استقطاب الرساميل من الخارج، فمن المعروف أنه يصعب استعادتها من الكثير من المصارف الموجودة حالياً بعد اهتزاز العلاقة بين طرفي العقد من مصارف ومودعين، والمسألة باتت تتطلّب مشهداً جديداً قادراً بأن يوحي بالفرق ويحقّقه فعلاً.

 

ولكن حتى لو لم تكن عمليات الدمج والاستحواذ كافية في القطاع المصرفي، فالأساس يبقى في التقويم العلمي الحقيقي لواقع أصول المصارف لتحديد المصارف ذات المخاطر الكبرى وغير القابلة على الاستمرار، كما تحديد المصارف المتمكّنة ضمن مجموعات مصرفية ذات رسملة جيدة ولو استعانت بمساهمة من كبار مودعيها لتعزيز رسملتها ومكانتها في السوق، ووضع الآلية المناسبة لإيفاء الدولة الالتزامات تجاهها بعد وضع أطر إعادة هيكلة الدين، طالما من المرجّح أنها لا تزال تحمل سندات خزينة وشهادات إيداع لدى المصرف المركزي. وذلك يكون من خلال برامج إشراك المصارف في المرافق الحيوية للدولة لاستعادة كامل الأموال المستثمرة من قبلها لدى الدولة المتعثّرة، وهي أموال المودعين، فيكون بذلك تحقق الإصلاح باتجاهين: الاتجاه الأول عبر وضع برنامج واضح لإعادة حقوق المصارف والمودعين، والاتجاه الثاني هو إنقاذ المرافق العامة عبر إشراك القطاع الخاص بكل فعاليته وإنتاجيته في ملكيتها وإدارتها بما يحسّن كل نوعية أدائها.

 

للمرة الأولى يطرح ملف إعادة هيكلة القطاع المصرفي باتجاه البناء الصلب لقطاع متين بمؤسسات شفافية وفعالة بعيدة عن كثافة الأسماء والمنافسة غير الجديرة وأوهام الفوائد المضخّمة والأرقام غير الواقعية وتوجيه الادّخار نحو تمويل قطاع عام عاجز في ظل اختناق قطاع خاص... فهل يكون كل ذلك فرصة لاستعادة الثقة ببناء متين يستحق تحمّل الكلفة وعناء الصبر لاستعادة الحقوق؟

بين استدامة الدين العام وتمويله من الجهاز المصرفي...Monday, 18-Jan-2021

 بين استدامة الدين العام وتمويله من الجهاز المصرفي...

Monday, 18-Jan-2021 
https://www.aljoumhouria.com/ar/news/572873/%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D8%AF%D8%A7%D9%85%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%85-%D9%88%D8%AA%D9%85%D9%88%D9%8A%D9%84%D9%87-%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%87%D8%A7%D8%B2-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B5%D8%B1%D9%81%D9%8A?utm_source=editor&utm_medium=web&utm_campaign=listnews

تتطلب قراءة بداية الأزمة تعميق الاقتران بين الظواهر المختلفة التي هيّأتها والقيود التي طغت على السياسة النقدية طوال الفترة السابقة، بما في ذلك على وجه الخصوص عدم استدامة الدين العام، والذي يمثل ثلثه الدولار الأميركي، والذي يحتفظ به إلى حد كبير في النظام المصرفي اللبناني، الدولرة القوية للاقتصاد اللبناني بأكمله بعد الحرب والتي استمرت على الرغم من تثبيت سعر صرف الدولار الأميركي مقابل الليرة اللبنانية عند 1507.5، والتدهور الحاد في ميزان المدفوعات منذ عام 2011 ونتيجة لذلك تَنامي العلاقة بين الودائع بالدولار والموجودات بالعملات الأجنبية في النظام المصرفي - أي تلك التي تحتفظ بها المصارف مع مراسليها الأجانب لتسوية المعاملات بالعملات الأجنبية واحتياطيات النقد الأجنبي للبنك المركزي. فعلام تم الاستناد لدولرة الدين العام تدريجاً وزيادة طبع النقد؟ وكيف انعكست كل هذه الخيارات على الجهاز المصرفي؟ وأي خلاصات للمستقبل؟

من المعروف أنّ المَيل لدولرة جزء متزايد من الدين العام يستند على كون إصدار سندات اليوروبوندز يتم بأقل فائدة من تلك المعتمدة لسندات الخزينة بالعملة الوطنية (نظراً لهامش المخاطرة بين العملتين).

وتجدر الإشارة إلى أنّ الدول الناشئة التي تلجأ إلى زيادة حصتها من الديون بالعملات الأجنبية لتقليل تكلفة خدمة الدين وتأمين المشتركين في الأسواق الخارجية، مثل لبنان، لا تستطيع بسهولة جذب الدولار، خاصة إذا كانت الدول تعتمد على الواردات وكانت صادراتها منخفضة... فيتعيّن عليها بالتالي جذب تدفقات النقد الأجنبي باستمرار حتى تتمكن من تسوية ديونها الخارجية على أساس السياحة وجذب رأس المال والاستثمار الأجنبي، على الأقل من المغتربين. وبالتالي، فإنّ فائض ميزان الرساميل يجب أن يعوّض باستمرار العجز التجاري التقليدي للحفاظ على توازن إيجابي لميزان المدفوعات الذي شهد عجوزات متراكمة في لبنان منذ عام 2011، لا سيما منذ اندلاع الأزمة في سوريا عام 2019.

 في الوقت نفسه، كلما زادت مخاطر سداد الدين العام في أعين وكالات التصنيف الدولية (فيتش وموديز وستاندرد آند بورز)، كلما تدهور التصنيف السيادي الممنوح لسندات اليوروبوندز اللبنانية (وهي بالدولار الأميركي)، ما يتطلّب زيادة أخرى في أسعار الفائدة لإقناعها الدائنين المستقبليين للاشتراك في الإصدارات الجديدة، ما يساهم في نمط يعرفه بونزي بالتوازي مع الحفاظ على تأثير سقاطة الدولرة مدعوماً بذاكرة الأزمة السابقة في الثمانينات والفارق المنخفض في العائد بين الجنيه الدولار اللبناني والدولار الأميركي، بالإضافة إلى عجز تراكمي في ميزان مدفوعات لبنان منذ بداية الأزمة في سوريا عام 2011، ممّا نتج عنه تدفّق صافٍ سنوي للعملة الأجنبية من البلاد ما حَدّ من هامش التدخل.

البنك المركزي في السيطرة على استقرار الصرف

من المعروف أنه في بيئة «استنسابية»، من الممكن بشكل خاص للحكومة إعادة تحسين سلوكها والحفاظ على معلومات أكثر من القطاع الخاص الذي يتوقّع سياسة نقدية متساهلة. تتعدد أسباب التراخي النقدي المتوقّع بين خلق فرص التوظيف، التمويل النقدي لعجز الميزانية عن طريق خفض قيمة العملة أو تحقيق التوازن الخارجي عن طريق تخفيض قيمة العملة بشكل تنافسي.

بالنسبة للبنان، كان اللجوء إلى التراخي خلال سنوات الحرب يرجع بالدرجة الأولى إلى التمويل النقدي لعجز الميزانية بسبب تدهور إيرادات الموازنة في ما يتعلق بزيادة الإنفاق خلال هذه الفترة الاستثنائية وغياب التحصيل الفعّال لجميع الضرائب والرسوم، وفي غياب الاحتمالات الواسعة للجوء إلى الديون في حالة عدم الاستقرار الأمني والسياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي لا يشجّع على اكتساب الثقة في المَلاءة المالية للدولة في نظر أي مُقرض مقيم أو غير مقيم. ثانياً، كان التساهل النقدي خلال سنوات الحرب اللبنانية مدفوعاً بإحياء النشاط الاقتصادي وخلق فرص عمل في ظل تدهور النشاط في مختلف القطاعات الاقتصادية التي تأثرت بشدة في الأحداث. بعد الحرب، شهد لبنان حالة من المديونية المفرطة، ومنها جزء متزايد بالدولار الأميركي وسياسة جذب رؤوس الأموال بالعملة الأجنبية لتزويد الاحتياطي الأجنبي لمصرف لبنان بقدرته على الحفاظ على ربط سعر الصرف.

 

وقد ظل الوضع مقبولاً حتى عام 2011 عندما اندلع الصراع في سوريا وتدفق مئات الآلاف من اللاجئين على لبنان مع تدهور النمو الاقتصادي وبدء منحى تراكم عجز ميزان المدفوعات. منذ عام 2011، ارتفعت نسبة الدين العام/الناتج المحلي الإجمالي بشكل مستمر لتتجاوز 176 % في نهاية عام 2019 مع تدهور وضع المالية العامة وزيادة الدين العام مع تراجع معدل النمو الاقتصادي من حوالى 8.5 % في 2011 إلى أقل من 1 % في نهاية 2019. في الواقع، يظهر التفاوت الكبير في أوضاع الدين العام عبر العالم صعوبة تحديد عتبة لإفلاس أو عدم استدامة المالية العامة، ويتعلق اثنان من «معايير ماستريخت» الخمسة بالمالية العامة: سقوف بنسبة 3 % من الناتج المحلي الإجمالي للعجز العام و60 % من الناتج المحلي الإجمالي للدين العام.

وقد أظهرت الدراسات أنّ حافز مفاجآت التضخم يزداد مع زيادة حجم الدين العام. من هذا المنظور، يمكن للدين العام أن يواجه أي التزام بمكافحة التضخم بمشاكل المصداقية؛ ستكون مسألة دراسة مصداقية مزيج السياسات وليس فقط مصداقية السياسة النقدية.

وبذلك انّ أي محاولة أحادية الجانب لتثبيت التضخم من خلال السياسة النقدية وحدها سيكون مصيرها الفشل، عاجلاً أم آجلاً، طالما بقي هناك عجز في الميزانية. وفي غياب التنسيق بين السياسة النقدية والسياسة المالية، ستكون السياسة النقدية مسؤولة عن ضمان خلق النقد لمنع عدم استدامة الدين العام، ويمكن في أحسن الأحوال تأخير التضخم.

وتؤكد الدراسات الكلاسيكية الجديدة لسارجنت ووالاس (1981) أنه حتى لو كان البنك المركزي يسيطر بصرامة على معدل نمو المعروض النقدي على المدى القصير، فإنّ المديونية المتزايدة للدولة يمكن أن تثير توقعات خلق نقد لإيفائه. وبالتالي، المزيد من التضخّم وتدهور القدرة الشرائية للمداخيل، وهو ما يعكس أحد أكثر المقاربات ملاءمة لحالة لبنان في الفترة الأخيرة من التسعينات الى اليوم.

إنّ إصدار الدين العام ناتج عن وجود عجز في الموازنة، أي عدم كفاية الإيرادات الضريبية مقارنة بإجمالي إنفاق الدولة خلال فترة معينة. من ناحية أخرى، إذا تجاوزت الإيرادات الإنفاق العام (فائض الميزانية)، ستكون الدولة قادرة على سحب مبلغ معادل من الدين العام القائم. وتسمّى هذه العلاقة بين إصدار / سحب الدين العام وحالة الميزانية في كل فترة: قيود ميزانية الدولة من حيث التدفق المالي.

يُذكر أنّ الإطار الطبيعي لتحليل العلاقة بين عجز الميزانية والديون هو قيود ميزانية الدولة. إحدى النقاط المهمة هي إمكانية الدولة تسييل عجزها (من خلال إصدار العملة المركزية). من أجل مراعاة هذه القدرة على خلق النقد، من الممكن بشكل مسبق النظر في قيود الميزانية الموحدة للدولة والسلطات النقدية. ومع ذلك، في هذه الحالة، سيكون من الضروري دمج كلّ من الموجودات والمطلوبات، وهذا يعني على وجه الخصوص دمج المطلوبات التي يحتفظ بها البنك المركزي بشأن الاقتصاد (ولكن ليس المطلوبات على الدولة).

ويلاحظ أنه كلما انخفضت الفجوة بين معدل النمو وسعر الفائدة، كلما ارتفعت نسبة الدين / التوازن طويل الأجل. وفي هذه الحالة من النمو القوي، لا يعاني الاقتصاد قيود الملاءة الزمنية. وفي هذه الحالة، لا نشهد مشكلة تتعلق بالقدرة على تحمّل الدين العام، ولكن على العكس من ذلك سنشهد حالة توازن تُعرف باسم حالة Ponzi». إنّ عدم وجود مخطط Ponzi، الذي يتكوّن من الاقتراض، لِدَفع، على وجه الخصوص، رسوم الفائدة على الديون القديمة المستحقة، ضروري لمواجهة قيود الميزانية بين فترات زمنية. إذا كان سعر الفائدة الحقيقي أعلى من معدل النمو، فإنّ نسبة الدين/الدخل تكون في البداية على مسار متفجّر، وبالتالي غير مستدام، وتعني قيود الملاءة المالية للدولة أنّ الدين العام الحالي يحتاج إلى فوائض أولية للموازنة.

 في ظل ظروف الأزمة المالية والدين العام غير المستدام، ستكون هناك زيادة في الفائدة على الدين العام في شكل تأثير «كرة الثلج»، ما يؤدي إلى انفجار الدين العام، وقد يؤدي أيضاً إلى فقدان الثقة في قدرة الدولة على الوفاء بالتزاماتها لسداد ديونها. من هنا يكون اللجوء إلى الديون لتمويل القطاع العام صعباً، وتكون النتيجة الوحيدة الممكنة هي تحويل جزء من الدين العام إلى نقود ما يؤدي إلى تضخم مفرط. وتُظهر معايير القدرة على تحمّل الديون التي تم تطويرها سابقاً أنّ تضخم التوازن الأعلى يتيح مجالاً أكبر للمناورة في السياسة المالية. وبالتالي، مع النمو غير المتغيّر ومعدلات الفائدة الاسمية، يسمح ارتفاع التضخم بتطبيق سياسة مالية أقل صرامة (السياسة المالية وسياسة الإنفاق) من دون أن يصبح الدين العام غير مستدام. لذلك نشهد «ضريبة تضخمية»، حيث يوفّر التضخم إيرادات ضمنية للدولة عن طريق تخفيض الدين العام القائم بالعملة الوطنية.

يبقى أنّ ثمن «إطفاء» الدين العام بالعملة الوطنية، عبر طباعة النقد من جهة والإعلان عن التخلّف عن سداد ديون العملات الأجنبية من جهة أخرى، ينعكس تراكماً في الخسائر في النظام المصرفي ككل بين خسارة قيمة دَينه بالليرة اللبنانية للدولة وعدم القدرة على تحصيل دينه لها بالعملات الأجنبية ولا حتى شهادات إيداعه بالعملات الأجنبية في الوقت الحالي لدى المصرف المركزي... صحيح أنّ استعراض تراكم عدم استدامة الدين العام وسُبل تمويله كانت تُهيّء لانهيار دراماتيكي للقصر المبني من رمل أمام أمواج البحر، إلّا أنّ العبرة تبقى في اتخاذ الخلاصات لإعادة البناء السليم والصخري للمستقبل.