jeudi 30 avril 2020

كرة نار التضخّم في لبنان: أي دروس تاريخية؟ لأي عِبَر مستقبلية؟

كرة نار التضخّم في لبنان: أي دروس تاريخية؟ لأي عِبَر مستقبلية؟
شارك
Tuesday, 28-Apr-2020 06:42
ليس سهلاً بعد كمّ الدراسات والأبحاث التي قمنا بها كاقتصاديين شباب عن فترة التضخّم والدولرة التي لم نعِها في الثمانينات، أن نمسكها كرة نار اليوم ونعيشها لحظة بلحظة، ونسأل عن الدروس المتخذة من الماضي والعِبَر المفترضة للمستقبل..! أيّ لغز هذا التضخّم الجنوني في لبنان الذي يظهر فجأة من دون ضوابط ولا معايير ولا نموذج علمي، يسمح بتوقّع مَنحاه ولا إمكانية وأسس علمية لانحساره، لا بل أي نقد وأي مستوى أسعار وأي قدرة شرائية، في بلد نحاول فيه قراءة الاقتصاد بين مطبّات السياسة؟... كيف أطلق المسار التضخمي الذي فاق 487 % عام 1987؟ وأي قراءة يُسمح بها للمنحى التضخمي لعام 2020 على ضوء النمو غير المسبوق للكتل النقدية، في ظلّ الضغظ المستمر لخلق النقد وازدياد الطلب على السيولة لو بالعملة الوطنية في ظلّ شح الدولار؟ من الضروري إعادة التأمّل بالتجربة التاريخية للتضخّم في لبنان على أمل استخراج العِبَر للمستقبل...
من المعلوم أنّ التجربة القاسية لتضخم الثمانينيات أرخت بظلالها بقوة على خيارات السياسة النقدية مطلع التسعينيات، حيث تلقّى المصرف المركزي كرة النار، فكان عليه امتصاص التضخّم الذي ساهم في حدوثه بشكل أساسي، بسبب زيادة الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية، إن لتمويل الدولة أو لتلبية احتياجات تمويلية تحت كل ضغوط تلك الحقبة من الحرب وعدم الاستقرار على جميع المستويات...هكذا بدأ تأثير ذكرى فترة التضخّم والدولرة على سلوك الحكومات والسلطة النقدية بحثاً عن تثبيت استقرار قيمة العملة الوطنية وقدرتها الشرائية في مطلع التسعينيات، بعد انتهاء الحرب ميدانياً.
خلال تلك الفترة، تركّزت جهود الحكومة على استبدال التمويل النقدي لعجز الموازنة على شكل سلفات خزينة مباشرة من البنك المركزي بالدين العام، عبر اصدار سندات الخزينة، حتى لو احتفظ بجزء كبير منها البنك المركزي والمصارف التجارية العاملة في لبنان، التي كانت مُلزمة بداية بالاكتتاب بسندات الخزينة بنسبة 60 % من التزاماتها بالليرة، ثم تمّ تخفيض هذه النسبة الى 40 % عام 1994 قبل الغائها عام 1997 تزامناً مع اتخاذ خيار تثبيت سعر الصرف... علماً أنّ تثبيت سعر الصرف بدلاً من الكتل النقدية، هو خيار طبيعي وثابت في الأدبيات الاقتصادية العلمية، كما في تجارب في ظلّ الدولرة، لأنّ الدولرة تفقد فعالية ضبط الكتلة النقدية بالعملة الوطنية بفعل سيطرة استخدام العملة الأجنبية، لذا يكون اعتماد ضبط سعر الصرف هو الأنجع.
إذاً، وعلى الرغم من تعدّد الأسباب، إلّا أنّ الشرارة الأولى للتضخّم بدأت مع تمويل المصرف المركزي للدولة، ومع اعتماد زيادة النقد بالعملة الوطنية حتى افتقاد السيطرة على قيمتها وبدء هروب الناس منها باتجاه الدولار، بعد افتقاد أدوارها الثلاثة كوحدة حساب وتسعير، ووسيلة للتداول ودفع المستحقات وقيمة للاحتياط..
ومع ذلك، من الضروري التمييز بين المنطق التقليدي الذي يفترض وجود عملة واحدة فقط، يتمّ تداولها في كل اقتصاد، والمنطق الذي يأخذ في الاعتبار وجود دولرة في الاقتصاد المعني، وبالتالي وجود عملة أجنبية مستخدمة الى جانب العملة الوطنية وتعرّض السوق لما يُعرف بـ "التضخّم المستورد" inflation importee في حال تدهور قيمة العملة الوطنية ازاء العملة الاجنبية، وبالتالي الاضطرار الى تثبيت العملة الوطنية ازاءها، في ظلّ توازي استخدام العملتين.
سار تطور التضخم طوال سنوات الحرب في لبنان جنباً إلى جنب مع تطور الكتلة النقدية، وفي بداية الثمانينيات، خصوصاً مع زيادة عجز الميزانية السنوية ثم مع انهيار سعر صرف العملة الوطنية منذ عام 1984. ولاحظ العديد من خبراء الاقتصاد، ارتباط هذه المتغيّرات وتطور التضخم مع التركيز على أنّ السبب الرئيسي للتضخم في لبنان، ولا سيما خلال سنوات الحرب، كان ذا طابع نقدي، دون استنتاج أنّه السبب الوحيد للتضخم في لبنان. نلاحظ، على سبيل المثال، أنّه قبل ظهور عجز الموازنة في نهاية السبعينيات وتطوره في سنوات الحرب في لبنان، ارتفع متوسط معدل التضخم السنوي بنسبة 20 % ، ثم تظهّر تضخم مزمن طوال سنوات الحرب وحتى بداية سنوات ما بعد الحرب (حتى عام 1992) خلال فترة التضخم المرتفع في عام 1987 (معدل التضخم 487 %).

كذلك اليوم، يزداد حجم الكتلة النقدية M1 التي تمثّل السيولة بالليرة اللبنانية بين نقد وحسابات جارية، بما يعكس من جهة زيادة النقد وتفضيل الناس السيولة على الودائع بالليرة، أي العمل على سحب أكبر قدر ممكن من الودائع، أي تحويلها الى نقد إمّا للتخزين قلقاً من وضع المصارف التي تفتح أبوابها يوماً وتقفلها أياماً، بغض النظر عن الأسباب منذ أشهر، بشكل لم يشهده لبنان حتى إبّان الحرب، كما لزيادة الاستهلاك، بما يضغط أكثر بالطلب على العرض ويزيد من ارتفاع الأسعار، وأساس المواطن ينفق أكثر نظراً لارتفاع الأسعار للاستهلاك، يعني أنّه يدفع أكثر ولو لم يشترِ بالكمية أكثر، مما يضطره الى سحب مال أكثر ... كذلك في غياب امكانية زيادة الدولرة للهروب من ودائع مجمّدة بالليرة، يفضّل أصحابها تحويلها الى نقد أو أقلّه حسابات جارية.

وبالعودة الى تجربة التضخّم في الثمانينيات، يتبيّن أنّ الانخفاض الحاد في سعر صرف الليرة اللبنانية لم يبدأ حتى عام 1984، إذ بدأ التضخم بالفعل قبل سنوات عديدة.
إذا نظرنا من جهة إلى تطور أسعار المستهلك بالليرة اللبنانية، ومن ناحية أخرى تطور سعر الدولار، نلاحظ أنّ هذين المتغيّرين اتبعا في فترات معينة منحنيات مختلفة، مما يسمح بتمييز ثلاث مراحل مختلفة:
المرحلة الأولى: تغطي الفترة من 1974 إلى 1984. تميّزت المرحلة الأولى من الحرب اللبنانية بارتفاع في أسعار المستهلكين أعلى بكثير من سعر الدولار / الليرة اللبنانية. خلال تلك الفترة، ارتفعت الأسعار بنسبة 400 % وارتفع سعر USD / LBP بنسبة 180%.
المرحلة الثانية: تمتد من 1984 إلى 1987. تميّزت هذه الفترة من الحرب في لبنان برد فعل معاكس من سعر الدولار الأميركي مقابل الليرة اللبنانية، الذي ارتفع 45 مرة خلال هذه السنوات الثلاث.
المرحلة الثالثة: تغطي الفترة من 1987 إلى 1993. تميّزت بانعكاس الاتجاه السابق. تمّ ضرب سعر USD / LBP بمقدار 7.5 بينما ارتفع مستوى السعر بمقدار 27.8 خلال الفترة نفسها. واستمر هذا الاتجاه، إلى حدٍ ما، حتى النصف الأول من عام 1994، عندما استمرت الأسعار في الارتفاع ببطء، فيما استمر الدولار في الانخفاض تدريجياً. وهذا يعني أنّ القوة الشرائية للدولار الأميركي تراجعت في السوق اللبنانية من حيث السلع الاستهلاكية التي تسمح بشرائها.
أما أبرز الأسباب المحتملة للتضخّم الذي عرفه لبنان في الثمانينيات، فيمكن تلخيصه بالتالي:
- استمرار عجز الموازنة، ما أدّى إلى زيادة متزايدة في الدين العام (تجاوزت 100 مليار ليرة لبنانية عام 1986). واستند تمويل هذا العجز إلى التسليفات المباشرة الممنوحة من قِبل البنك المركزي وإصدار سندات الخزينة (التي تجاوزت عام 1986 مبلغ 60 مليار ليرة لبنانية). وقد زاد هذا العجز بسبب الوضع الاقتصادي العام في لبنان واستحالة تحصيل الضرائب المباشرة وغير المباشرة، الأمر الذي حدّ من عائدات الميزانية في مقابل الزيادة المتزايدة في الإنفاق، ومعظمها غير منتج.
كانت الزيادة في العرض النقدي لتمويل هذا العجز المتزايد في الميزانية السبب الرئيسي لبداية الأزمة النقدية، التي تجلّت في زيادة التضخم وتدهور سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل العملات الأجنبية، وخصوصاً الدولار الأميركي. من المسلّم به أنّ الزيادة في العرض النقدي في لبنان كانت تضخمية، خصوصاً أنّه لم يكن مصحوباً بزيادة موازية في الإنتاجية، مهما كان أصل هذه الزيادة، إن كان لتمويل الدولة أو لفئات معينة تسعى للمضاربة، علماً أنّه خلال الحرب كانت هناك إئتمانات قليلة للاستثمارات بسبب قلة الاستثمارات.
- الزيادة في الخلق النقدي من قِبل البنك المركزي لتلبية احتياجات القطاع الخاص، مما يتسبّب في زيادة المستوى العام للأسعار. فمولت العديد من القروض للقطاع الخاص استيراد المنتجات الاستهلاكية وليس استثمارات منتجة. بالإضافة إلى ذلك، تمّ منح غالبية الاعتمادات لعدد محدود من الشركات والأفراد.
- حالة ميزان المدفوعات: بلغ عجزها عام 1983 حوالى 933 مليون دولار أميركي و 1984 حوالى 1.3 مليار دولار أميركي، مقابل فائض 380 مليون دولار أميركي عام 1985. وكانت ترتبط هذه التطورات بشكل أساسي بتدفق رأس المال من اللبنانيين العاملين في الخارج والوضع الاقتصادي في دول الخليج، حيث يعمل عدد كبير من اللبنانيين. هذه التدفقات الرأسمالية ، التي كانت مليار دولار في عام 1982، انخفضت إلى 500 مليون دولار في عام 1985.
- الإفتقار إلى القدرة التنافسية في السوق اللبنانية، حيث تتحكّم أقلية بأكثرية المؤسسات الخاصة والرساميل او تؤثر على غالبية القطاعات الاقتصادية.
- ضعف الإنتاجية في القطاعات الاقتصادية المختلفة بسبب الحرب وهجرة جزء كبير من القوى العاملة المؤهّلة وهروب الأدمغة إلى الخارج. بالإضافة إلى تفضيل رجال الأعمال اللبنانيين استثمار رؤوس أموالهم في الخارج بسبب عدم استقرار الوضع السياسي والأمني خلال سنوات الحرب.
- الإتجاه العام للمجتمع الاستهلاكي إلى مستوى معيشي يفوق قدراته.
- الوضع الدولي الذي يتسمّ بعدم الاستقرار السياسي والاقتصادي الذي يسبب التضخم أو الركود الاقتصادي وضعف المناخ الاستثماري الجاذب للرساميل، ولاسيما نحو الاستثمار المنتج والذي يخلق فرص عمل مزايدة.
- سيطرة القطاع الثالث وقطاع الخدمات على حصّة الأسد في الاقتصاد، مع العلم أنّ هذه القطاعات شديدة التأثر بالأزمات ورساميلها سريعة الهروب عند أدنى هزّة استقرار، خلافاً للقطاعات الإنتاجية التقليدية ذات الاستثمارات الثابتة مثل الزراعة والصناعة... وبالتالي، فإنّ البلدان التي يعتمد اقتصادها بشكل أساسي على القطاع الثالث، تكون أكثر عرضة لمخاطر التضخم المماثلة.
- هناك جمود في ما يتعلق بانخفاض الأجور والأسعار وتدهور القدرة الشرائية لذوي الأجور الثابتة بالليرة...
- التأثير النفسي والواقعي: توقّع جميع العملاء الاقتصاديين في لبنان خلال الثمانينيات ارتفاع الأسعار وانخفاض قيمة الليرة اللبنانية، وتصرّفوا على هذا الأساس، الأمر الذي سرّع وتيرة الأزمة.
وقد أظهرت تقارير صندوق النقد الدولي، أنّ النمو الذي شهده لبنان بين عامي 1979 و 1980، بسبب تدفق رأس المال أو "المال السياسي" إلى لبنان من خلال دعم الدول الأجنبية، ترك بعده تدهوراً بدأ من النصف الثاني من عام 1981 مع تدهور الأمن. خلال هذه الفترة، فقدت الدولة كل سيطرتها على إيراداتها ونفقاتها، واستندت قراءة أرقام المالية العامة والوضع الاقتصادي العام فقط على التقديرات، ولم تعد الإحصاءات رسمية وموثوقة. واستمر تعليق نشر حسابات الموازنة على النحو المنصوص عليه في الدستور وقانون المحاسبة العامة من 1979 إلى 1993.
وباختصار، من أجل تمويل عجز متزايد في الميزانية العامة في مناخ من التوتر وعدم الاستقرار السياسي والأمني، تزايد عرض النقد عام 1982 بشكل يتجاوز الاحتياجات الاقتصادية للبلاد، وبدأ العملاء الاقتصاديون في "الفرار" من الليرة اللبنانية واستبدال الأصول الحقيقية أو العملات الأجنبية بأرصدة عملتهم بالعملة الوطنية. الأمر الذي عزّز عملية التضخم وانخفاض قيمة العملة الوطنية. ومن ثم، دخل الاقتصاد اللبناني في حلقة مفرغة بين العجز المالي والتضخّم وتدهور قيمة الليرة اللبنانية والدولرة والسعي الى ضبط سعر الصرف واستنزاف احتياطي العملة الصعبة وزيادة الطلب عليها وارتفاع التضخم من جديد...
للوهلة الأولى، يتخّيل لنا أنّه يكفي استبدال الأرقام والسنوات في هذا المقال، لنكون نتحدّث عن الوضع اليوم تماماً.. إلّا أنّ ما كان يشفع فينا، فهو محدودية الدين العام في الثمانينيات، وكون معظمه كان بالليرة اللبنانية، فيما مبلغ بسيط جداً بالدولار، وكون القطاع المصرفي لم يكن غارقاً في أزمة المالية العامة مثلما هو الوضع اليوم عبر توظيف هائل لودائع الناس في تمويل عجز الخزينة، إن بشكل مباشر بشراء سنداتها (وخصوصاً اليوم اليوروبوند)، أو بشكل غير مباشر من خلال المصرف المركزي (عبر شراء شهادات الايداع ولا سيما بالدولار الأميركي) ليتمكّن بدوره من تمويل الدولة ودعم الاستيراد المتزايد بالدولار، أو خصوصاً للاستمرار بتثبيت سعر صرف الليرة ازاء الدولار، بعد 22 عاماً لم تتسنّ فيها فرصة صدمة ايجابية تسمح بالخروج التدريجي من دوامة الدولرة والتثبيت، الى حالة استقرار فعلي تعكس حقيقة السوق...

jeudi 23 avril 2020

بين الدولرة وميزان المدفوعات: هكذا يتحدد سعر صرف الليرة!

بين الدولرة وميزان المدفوعات:
هكذا يتحدد سعر صرف الليرة! 22-04-2020
د. سهام رزق الله (أستاذة محاضرة في جامعة القديس يوسف – كلية العلوم الاقتصادية)
سعر صرف الليرة تجاه العملات الأجنبية، وتحديدا في موضع البحث تجاه الدولار الأميركي، ليس فقط نتيجة تدافع أحداث وعدم استقرار وتأثّر بالتوقعات السلبية وعمليات المضاربة  على أهميتها، إنما نتيجة المسار الاقتصادي الأساسي موعلمية حسابية متّصلة من جهة بخيار السياسة النقدية ونظام القطع في البلاد ومن جهة أخرى بوضع ميزان المدفوعات وبالتالي موجودات النظام المصرفي واحتياطي المركزي بالعملات الأجنبية. ذلك انطلاقا من اختيار البنك المركزي التدخّل المستمر لتثبيت سعر الصرف منذ عام 1997 خاصة في ظل وضع دولرة في البلاد والحاجة الى استقرار العملة الوطنية تجاه الدولار المستخدم بالتوازي معها في السوق المحلي. فكيف دخلت "الدولرة" الى لبنان وأثّرت في خيار سايسة القطع وكيف تخرج "الدولرة" وبأي تداعيات على سعر الصرف بفعل تدهور وضع ميزان المدفوعات واحتياطي العملات الأجنبية؟
*******************
من أبرز مفارقات الحياة الاقتصادية اللبنانية أن نفس الأسباب التي أدخلت الدولرة الى لبنان تدفع بها اليوم خارجا!! هي نفسها ازدواجية الدين العام وتدهور وضع المالية العامة وتراجع ميزان المدفوعات والطلب الزائد على الدولار الأميركي التي أدت في الثمانينات الى الهروب من تآكل القدرة الشرائية لليرة اللبنانية واختيار الدولار، وتقبلها حينها الجهاز المصرفي اللبناني.. هي نفسها اليوم تتسبّب بموجة معاكسة يحاول  من خلالها النظام المصرفي بفرض استخدام الليرة لا بل "لبننة" الدولار المودع لديها ! المصرف المركزي والمصارف اللبنانية تقبّلت في الثمانيات خيار القطاع الخاص اللبناني باعتماد الدولرة (خاصة للودائع) كخيار حر ولو غير معلن رسميا الى جانب العملة الوطنية. وإقتصاديا كان من الطبيعي في ظل اعتماد الدولار بالتوازي مع الليرة اللبنانية أن يختار مصرف لبنان سياسة ربط سعر الصرف بغية المحافظة على استقرار سعر صرف العملة الوطنية ازاء العملة الأجنبية المستخدمة بالتوازي معها في السوق.. حتى أنه تم إنشاء غرفة مقاصة للشيكات بالدولار واعتاد اللبنانيون على مشهد مستغرب في أسواق العالم وهو اسخدام العملة الورقية للدولار في السوق الى جانب العملة الورقية اللبنانية وحتى تعبئة الصرافات الآلية بالعملتين الورقيّتين فيما طبعا مصرف لبنان لا يتحكّم إلا بطباعة الليرة اللبنانية...
من هنا إن المحافظة على هذا الاستقرار لا يمكن أن يبقى مجرّد قرار إنما يحتاج أساسا مؤشرات وإمكانية تطبيق لاسيما باستقطاب الدولار من الخارج وتحقيق فائض بميزان المدفوعات (لطالما اعتمد على فائض ميزان رساميل يعوّض عن عجز الميزان التجاري حيث تقليديا الاستيراد يتخطى التصدير).
وبعد أكثر من 22 سنة على هذا الستاتيكو وبعد أن تخطت دولرة الودائع 76% وتمددت الدولرة الى كامل النظام المصرفي لتشكل حصة الأسد من التسليفات وأكثر من ثلث الدين العام، ومع تدهور وضع المالية العامة وتدهور ميزان المدفوعات والموجودات الخارجية للجهاز المصرفي وبالتالي ضعف احتياطي المصرف المركزي بالدولار، تقلّصت إمكانية استمرار اتدخل مصرف لبنان لبيع الدولار مقابل الطلب المتزايد عليه في السوق... وقد انقلبت موازين الوضع مع تزايد معاناة لبنان منذ عام 2011 من عجز في ميزان المدفوعات..ما عدا العام 2016 الذي حاولت فيه "الهندسات المالية" تعزيز استقطاب الدولار وزيادة احتياطي المصرف المركزي وطلب زيادة رساميل المصارف التي تزايد انكشافها بالدولار ان تجاه الدولة عبر الاكتتاب باليوروبوند أو تجاه المصرف المركزي عبر شراء شهادات الايداع منه بالدولار. فبلغ هذا العجز في نهاية عام 2019 حوالي 4351 مليون دولار أمريكي ، بينما بلغ العجز المتراكم منذ 2011 14515.9 مليون دولار أمريكي (باستثناء عام 2016 ، حيث أصبح الرصيد فائضاً بشكل استثنائي بسبب " الهندسة المالية لمصرف لبنان.)
أدى انخفاض جاذبية العملة وعجز ميزان المدفوعات إلى زيادة الضغط على سوق الصرف الأجنبي الذي اعتمد منذ عام 1997 على العلاقة بين سعر صرف الليرة اللبنانية والدولار الأمريكي. على أساس 1507.5 جنيهًا إسترلينيًا للدولار.
وقد اعتمدت المصارف اللبنانية على استثماراتها مع المصارف المراسلة في الخارج (القطاع المالي غير المقيم) لشراء أوراق نقدية لتسديد ديونها في الخارج وإجراء تحويلات لعملائها ، خاصة بعد قيود مصرف لبنان على استخدام احتياطيات العملات الأجنبية المتاحة.
وتظهر الميزانيات العمومية الموحدة للبنوك اللبنانية أنه في عام 2019 ، خسرت المصارف اللبنانية 43.56٪ من قيمة حساباتها في القطاع المالي غير المقيم (أي المصارف المراسلة) ، لتستقر قيمة هذه الحسابات على مستوى 6.77 مليار دولار.
  
يمثل السطر الأول الأدنى الميزان التجاري الخارجي ، والسطر الثاني هو الرصيد الحالي ، والخط الثالث هو ميزان المدفوعات ، والخط الرابع هو الصادرات ، والخط الخامس الذي يعني أن أعلى يمثل الواردات.
ومع ذلك ، فإن انفجار الأزمة ومحدودية احتياطيات النقد الأجنبي وأولويات استخدامها بين تسوية الديون المشكوك في تحصيلها بالدولار الأمريكي قبل اتخاذ قرار بإعادة هيكلة الدين العام وتمويل استيراد القمح الخام ، تغطية مصرف لبنان الأدوية والمستلزمات الطبية والمشتقات البترولية ، في ظل تزايد الطلب على الدولار في السوق ، إلى تجميد إمكانية التبادل في القطاع المصرفي الذي حافظ على السعر الرسمي 1507.5 دون إمكانية التحويل في السوق إلى الخارج حتى تضاعف الطلب على الدولار عند الصرافين وفلت السوق من إمكانية السيطرة عليه.
 مع العلم أن سعر الدولار الموازي ظهر في سوق الصرافة أعلى من السعر الرسمي ، بحيث انهار الهدف الرئيسي للبنك المركزي لحماية القوة الشرائية والاستقرار النقدي من التقلبات في أسعار الصرف وموجات التضخم ، وخاصة "التضخم المستورد" الناتج عن ارتفاع أسعار المنتجات المستوردة ، والتي تمثل حوالي 80٪ من إجمالي الاستهلاك المحلي.
 ويلاحظ أنه منذ عام 1993 فصاعدًا ، بدأت فجوة النمو بين ودائع العملات الأجنبية والموجودات الخارجية للنظام المصرفي في الاتساع تدريجيًا (انظر الرسم البياني).
المصدر Kasparian R [2020], “La crise des liquidités actuelle est aussi celle de la dollarisation de l’économie », •                https://www.lorientlejour.com/article/1205698/la-crise-des-liquidites-actuelle-est-aussi-celle-de-la-dollarisation-de-leconomie.html
بمجرد أن الدولار الأمريكي لا يستخدم فقط للدفع مقابل الواردات ، فإن مبلغ ودائع العملات الأجنبية لم يعد يساوي تمامًا كمية الموجودات بالعملة الأجنبية. هناك عاملان آخران يلعبان دوراً في توسيع الفجوة بين الودائع والأصول الأجنبية: التحويل المستمر من الليرة اللبنانية إلى الدولار أمريكي ومنح المصارف تسليفات بالدولار من شأنها أن تزيد خلق النقد  فضلا عن استخدام الدولار كأداة للدفع والتسوية للمعاملات المحلية.
ومع ذلك ، طالما كان ميزان المدفوعات في مسار تصاعدي ، ظلت فجوة النمو بين ودائع العملات الأجنبية والموجودات الخارجية للنظام المصرفي مضبوطة: وبالتالي انخفضت نسبة الودائع إلى الأصول الخارجية من 1.7 عام 1997 إلى 2.0 في نهاية 2011. منذ ذلك الحين ، مع بداية تداعيات الأزمة السورية على الاقتصاد اللبناني ومجمل التغيرات في المشهد اللبناني واهتزاز الاستقرار، وظهور عجز في ميزان المدفوعات وزيادة غير طبيعية في ودائع العملات الأجنبية ، التي ارتفعت هذه النسبة بشكل كبير لتصل إلى 3.5 في نهاية عام 2016 ؛ 4.2 نهاية عام 2017 ؛ 5.3 في نهاية 2018 ؛ وأخيرًا 7.3 في نهاية عام 2019. مع هذا المستوى من الاختلاف وفي سياق الأزمة ، يبدو بوضوح أن الموجودات الخارجية للمصارف لم تعد كافية لتلبية طلبات العملاء لسحب الودائع. خاصة وأن مصرف لبنان لا يستطيع طباعة الدولار لتزويد المصارف بها والاستجابة لطلبات السوق.
 على خط مواز، تتجاوز خسائر مصرف لبنان 40 مليار دولار ، وهو جزء كبير من إجمالي الموجودات المبلغ عنها لمصرف لبنان ومبلغ كبير جدًا (أكثر من 100 ٪ من الناتج المحلي الإجمالي) بالمقارنة مع سائر بلدات العالم.
وتنتج هذه الخسائر المتراكمة عن سنوات من المعاملات المالية الخاسرة التي يديرها مصرف لبنان (تهدف إلى تراكم احتياطيات النقد الأجنبي للدفاع عن تثبيت سعر الصرف وسد فجوة التمويل في رصيد مصادر الخسائر الأخرى) وتسارع التراكم في سياق "الهندسة المالية" التي بدأت في عام 2016. تم تنفيذ هذه المعاملات بهدف تجديد احتياطيات النقد الأجنبي من خلال جذب العملات الأجنبية من المصارف أو عبرها من مراسليهم في الخارج وفض توظيفات كانت لديها في الخارج وتحويلها الى لبنان للاكتتاب باليوروبوند أو شراء شهادات الايداع بالدولار من المصرف المركزي حتى تخطت 52.5 مليار دولار، تضاف الى 18 مليار دولار احتياطي الزامي على الودائع بالدولار ليصل المجموع الى أكثر من 70 مليار دولار للمصارف لدى المصرف المركزي.
وقد أظهرت خطة اعادة الهيكلة أنه يمكن أن يصل التقييم الكامل للخسائر (المباشرة وغير المباشرة) التي تكبدتها المصارف اللبنانية في محافظ أصولها إلى ما مجموعه 62.4 مليار دولار أمريكي وفقًا لتقديرات أولية تغطي الأصول بالدولار الأمريكي والليرة اللبنانية. فجاء الطرح أولاً شطب رأس المال بقيمة 20.8 مليار دولار، ثانيًا ب تغطية رصيد الخسائر (أي 62.4 مليار دولار أمريكي) من خلال مساهمة انتقالية استثنائية من كبار المودعين كتعويم أو مساهمة في رساميل المصارف. بما يطازل في الصيغة الأولى 10% من المودعين (الذين لديهم أكثر من 100 الف دولار او ما يوازيها، ثم بالصيغة الجديدة حصرها ب 2% من المودعين أي من لديهم أكثر من 500 الف دولار أو ما يوازيها). ثالثاً معالجة الخسائر الإضافية المحتملة الناتجة عن تخفيض قيمة العملة ومخاطر "عدم تطابق العملة". مما سيؤدي التخفيض التدريجي لسعر الصرف الرسمية المنصوص عليه في خطة إعادة الهيكلة إلى تحسين الشفافية والسيولة في سوق الصرف الأجنبي ، مع الأخذ في الاعتبار بشكل خاص حالة ميزان المدفوعات واحتياطيات العملات الأجنبية التي لم تعد تسمح للحفاظ على المستوىالحالي لسعر الصرف المعتمد منذ عام 1997.
المصدر: خطة اعادة الهيكلة
وقد أشارت الدراسات الحالية، اعتمادًا على المنهجية المستخدمة في الخطة، إلى المبالغة السابقة في تقدير الليرة اللبنانية بنسبة 30٪ إلى 60٪. تم حساب التقدير الأخير وفق الضرورة لسد فجوة ميزان المدفوعات. وبالنظر إلى توقع أن تساهم إعادة هيكلة الدين الخارجي في حوالي نصف عجز التمويل الخارجي ، فالتقديرات أن يكون التعديل الأولي لحوالي 30٪ في سعر الصرف ليسمح بإعادة التنظيم السلس لسعر الفائدة. على أن يؤدي فرق التضخم إلى انخفاض سعر الصرف الرسمي بنسبة 50٪ إلى 60٪ بحلول عام 2024.
وتعبّر خطة إعادة الهيكلة عن نية الحكومة في الانتقال تدريجياً إلى نظام سعر صرف أكثر مرونة خاصة  أن الانتقال إلى سعر صرف عائم بالكامل غير مرغوب فيه حتى ينتقل الاقتصاد تمامًا إلى توازن جديد مستقر. على أن يعتمد مصرف لبنان سياسة سعر الصرف تضمن أن سعر الصرف القابل للتعديل سيعكس فارق التضخم مع العملات الرئيسية.
ومع توقّع وصول متوسط ​​التضخم إلى 25٪ في عام 2020 بسبب الآثار السلبية للانخفاض الحاد في سعر الصرف الموازي، يبقى الرهان للمستقبل أن يقوم مصرف لبنان بتخيف الى إلغاء التمويل النقدي للمالية العامة ولو على شكل اكتتاب بسندات الخزينة..وبمجرد استقرار الاقتصاد ، يفترض وضع إطار جديد للسياسة النقدية من قبل مصرف لبنان للتركيز وسياسة خروج تدريجي من السياسات النقدية غير التقليدية والعودة الى الأدوات التقليدية واعادة ترميم استقلالية المصرف المركزي وحماية الجهاز المصرفي من الترابط الزائد مع السايسة المالية التي صبّت مباشرة انعكاساتها على ثقة الناس بمصرف لبنان والمصارف اللبنانية  ككل.
________________________

Bail-in رمي الدائنين بال قبل أي فرصة للدولة المديونة بصندوق سيادي؟

Bail-in رمي الدائنين بال  قبل
 15-04-2020 أي فرصة للدولة المديونة بصندوق سيادي؟
د. سهام رزق الله (أستاذة محاضرة في جامعة القديس يوسف – كلية العلوم الإقتصادية)


من الثابت والأكثر إيجابية في خطة إعادة الهيكلة المتعددة الأبعاد بين الدين العام والمصرف المركزي والمصارف التجارية أنها كشفت الأرقام الفعلية بكل شفافية للمالية العامة والجهاز المصرف ككل وكانت واضحة فيها بصمات البنك الاستثماري الاستشاري المرموق "لازار" الذي اختارته الدولة اللبنانية لمهمة إعادة هيكلة الدين العام ومصرف لبنان والقطاع المصرفي..وأخيرا ولأول مرة نحصل كإقتصاددين على أرقام حقيقية لحسن التشخيص العلمي لجوهز الأزمة في لبنان...ولكن التشخيص السليم على أهميّته وأولويته طبعا لا يكفي لحل الأزمة، بل صلب الموضوع يصبح في حسن المعالجة للخروج بأفضل نتائج مع أقلّ تكاليف والاصلاح لضمان عدم تكرار السيناريو نفسه! ولكن النتيجة أتت بتصفية رساميل المصارف كاملة بشطبة قلم وتغطية الباقي مباشرة من أموال المودعين لدى المصارف لتعويمها تحت راية Bail-in ... يعني اللجوء الى الدائنين الأساسيين قبل إظهار مساهمة المديون الأساسي المتسبب بجوهر الأزمة أي الدولة اللبنانية... فماذا تعني مفاهيم التعويم المصرفي من المودعين؟ لماذا نلجأ اليها؟ ما هي مسؤولية الدولة المديونة والاصلاح المطلوب منها لعدم تكرار الأزمة؟ وأي مساهمة ممكنة من الدولة المديونة عبر "صندوق سيادي لممتلكاتها" للحفاظ على حقوق دائنيها قبل التوجه الى ممتلكات الناس؟ وأي فرصة لها لإشراك القطاع الخاص جديا معها لتحسين إدارتها وتفعيل مؤسساتها؟
*******************
ما هو ال Bail in  ومتى يتم اللجوء اليه؟
بداية لا بد من تعريف المفاهيم الاقتصادية من Bail in  و Bail out  قبل استهلاكها مرة في مكانها ومرات في غير مكانها مثلما حصل مع Capital control  وخاصة ال Haircut  حتى أصبح تصويب استخدامها والعودة الى معناها الأساسي المتّصل بالاقتطاع من الدين العام للدولة عند عجزها عن التسديد أمرا مستغربا، نظرا لتشتيت التعبير في غير مكانه الفعلي واستعماله بالحديث عن ودائع المصارف والفوائد عليها أو حتى سحب مبالغ بالليرة من وديعة بالدولار على أساس سعر الصرف الرسمي وليس سعر السوق...
ال   Bail in هي ممارسة مالية تتطلب من بعض الدائنين لمصرف مثلا يواجه صعوبات (بما في ذلك في بعض الأحيان المودعين لديه) المساهمة في رساميله الخاصة أي أن يصبحوا مساهمين فيه لتقليل حجم المطلوبات التي لديهم عليه مؤسسة الائتمان فيصبحوا شركاء وطبعا مستفيدين لاحقا من أرباحه بعد العملية الانقاذية وتحسّن أوضاعه بعد وضع خطة محكمة تضمن هذا التحسّ في المرحلة التالية. وهكذا تسمح عملية الإنقاذ للمصارف بإعادة الرسملة في حالة حدوث أزمة.
عبر تدخّل مباشر  حيث تقوم الدولة بعملية إنقاذ لمصرف Bail-out وهي تختلف عن ال
من قبلها عن حدوث أزمة في القطاع المصرفي (كما كان الحال خلال أزمة 2008)، عندما تكون الأزمة في القطاع المصرفي نفسه وتقوم الدولة بواجبها بإنقاذه حماية لحقوق الناس وليس العكس!
وقد تم بالفعل استخدام هذه الطريقة من قبل بعض البلدان (قبرص على وجه الخصوص) لمساعدة المصارف التي تعتبر مهمة للغاية لعدم السماح لها بالإفلاس (المصارف ال"أكبر من أن تفشل"). يمكن لهذه الأداة في بعض الأحيان أن تستهدف بشكل مباشر الحسابات المصرفية للمودعين ، ربما في ظل ظروف معينة ابتداء من سقوف معيّنة وبشكل تصاعدي مدروس يدرج الأكثر قدرة قبل الأقل تباعا من الشرائح ونزولا لاتمام العملية الانقاذية..
أين جوهر الأزمة ومن هو المديون الأساسي؟
من هنا السؤال ألأساسي: ما هو جوهر الأزمة في لبنان؟ من هو المديون وممن اقترض ومن هو العاجز عن تسديد متوجباته ولمن؟ الجواب أن المديون هو القطاع العام وهو من ألقى بظل أعبائه على القطاع وهو من اجتذب معظم مدخرات المودعين لتمويله ان كان عبر اكتتاب المصارف المؤتمنة على ودائع الناس بشكل أساسي لديه أكثر بكثير من تمويل الاستثمار الخاص المنتج للأقتصاد، أو بشكل غير مباشر من خلال توظيفاع المصارف لدى المصرف المركزي عبر الكم الهائل من شراء شهادات الايداع لديه ولم تعد الفجوة لدى مصرف لبنان سرا بعد نشرها انكساره على أكثر من خمسين مليار دولار..وكنا ذكرنا ذلك في "الورقة البحثية لانقاذ الجهاز المصرفي" حيث ثبت أن المصارف توظّف أكثر من سبعين مليار دولار لدى المصرف المركزي بين إحتياطي الزامي وشهادات ايداع وفصّلت الأرقام وكالة Bloomberg  وقد تمت الاشارة اليها في "خطة اعادة الهيكلة" نفسها.
إشكالية الجهاز المصرفي إزاء التدهور المالي الاقتصادي
في الواقع القطاع المصرف والمودعون لديه وُضِعوا وجها لوجه منذ انفجار أزمة المديونية غير المستدامة الدولة وبدلا من أن يكونوا سويا في وضع مطالبة الدولة باسترداد أموالهم الموظفّة لديها، تلقوا طرح شطب رساميل المصارف دفعة واحدة وبغض النظر عن الفروقات بينها، لجهة اختلاف مستوى الانكشاف بين مصرف وآخر إن على الدين العام أو على التوظيفات في المصرف المركزي أو على الاثنين معا إن بالليرة أو بالدولار، واستكمال التغطية من مدخرات المودعين.. الجهاز المصرفي اليوم هو الدائن الأساسي للدولة والقطاع المصرفي ومودعوه عليه مالمطالبة سويا باستعادة الأموال لاسيما منذ بلغ الدين العام 83 مليار دولار و152% من الناتج المحلي مطلع العام 2019 قبل أن تتدهور الأحوال ليلامس هذا المعدل 176% في نهاية العام 2019 . وذلك أيضا مع انخفاض احتياطي المصرف المركزي من العملات الأجنبية الذي كان تخطى عتبة ال40 مليار دولار بعد "الهندسات المالية" عام 2016 لحوالي 22 مليار دولار اليوم لاضطرار مصرف لبنان للدفاع عن الاستمرار بسياسة "تثبيت" سعر صرف الليرة من جهة وسد الحاجة للدولار مع تنامي تراكم عجز ميزان المدفوعات الهائل تحديدا منذ العام 2011 سنة انقلاب جميع مقاييس المؤشرات الاقتصادية على جميع المستويات من سقوط مدوي لمعدّ النمو الاقتصادي من أكثر من 8% لأقل من 1% ليصبح في نهاية العام النمو الفعلي تحت الصفر بسبعة نقاط -7% وتتوقع الخطة أم يكون تحت الصفر -12% في نهاية 2020..
بعد التدهور في المالية العامة، وانكماش الاقتصاد وبالتالي تقلّص الوعاء الضريبي وتراجع جميع المؤشرات الاقتصادية منذ العام 2011 ازداد "تورّط" القطاع المصرفي بتمويل الدولة ان بفعل جاذبية معدلات الفوائد التي اضطرت الدولة لعرضها على دائنيه للتعويض عن عامل المخاطرة الذي تحمله سنداتها، وبالطبع سعي المصارف للاستفادة من هذه التوظيفات المربحة، أو بنتيجة اختناق الاقتصاد وتراجع فرص التوظيفات الأخرى كون ارتفاع معدل الفائدة على السندات أصبح "سعر الفائدة الرئيسي" Taux d’interet directeur  المؤثر
في مجمل هيكلية الفوائد الدائنة والمدينة اتي باتت تتبعه وتصعّب أكثر على القطاع الخاص امكانية ايجاد مشاريع ذات مردود أعلى منه لتستدين على أساسه وتتمكّن من الايفاء بدينها..
طبعا كون المؤسسات الخاص مضطرة على ايفاء ديونها وإلا تتعرّض أملاكها لخطر وضع يد الدائنين حتى استرجاع حقوقهم! وبذلك تمادى تجيير معظم المدخرات للتوظيف لدى الدولة، والتي تمادت بدورها في الاستدانة والمصاريف الجارية بمعظمها بين حوالي 40% منها لرواتب القطاع العام في حين لا يتعدى حجمه في دول العالم أجمع حدود 10 الى 15% كحد أقصى، وأيضا حوالي 40% لخدمة الدين أي الفوائد على الدين العام، و11% لقطاع الكرباء الذي يتسبب سنويا بين  1.5 و 2 مليار دولار، أي تراكم 30 مليار دولار منذ خمسة عشر سنة دون الحصول على التيار الكهربائي 24/24، لا بل مع تشريع المولّدات الخاصة.... وأكثر من ذلك، بعد سنوات من غياب الموازنة حملت موازنة 2017 سلسة رتب ورواتب تبيّن أن كلفتها فاقت ضعف المتوقّع. ومع ذلك استمر التوظيف وازدادت التكاليف وذلك مع العلم كم كان الاقتصاد مرهقا، وكم اعتُمِدَ على "الهندسات المالية" لتأمين من جهة عائدات بحوالي ال 800 مليون دولار من ضرائب على عوائد المصارف من الموجة الأولى منها (وكان هذا الرقم متوقّع أن يغطي كلفة السنة الأولى من سلسلة الرتب ولو تبيّن بعدها أنها تفوقها)، وكم كان التعويل عليها لزيادة الاحتياطي بالدولار لدى المصرف المركزي في حين كان يستمّر تدهور ميزان المدفوعات أي الخروج السنوي الصافي للدولار من لبنان في ظل مناخ تجاذبات وضعف استقرار على مختلف المستويات في تلك الحقبة، كان ينعكس تدهورا بالتصنيف الائتماني للبنان، أي تراجع ثقة وكالات الصنيف مثل "موديز" و"ستاندرد بورز" و"فيتش" في إمكانية ايفاء دينه السيادي. وهذا يتترجم مباشرة في اضطرار الدولة الى زيادة الفوائد أكثر على سنداتها ل"إقناع" الدائنين المحتملين بشرائها، وفي طليعتها المصارف، وهذه ما حصل فعلا في مطلع العام 2019.
أما ميزان المدفوعات الذي يضم ميزان تجاري (الفارق بين الصادرت والواردات) وميزان رساميل فانقلب من رصيد ايجابي بفضل تغطية فائض ميزان الرساميل للعجز التجاري الى سلبي بعد انكشاف هشاشة القدرة على استقطاب العملات الأجنبية لمجرّد توقّف حركة الرساميل من الخارج والتوظيف الأجنبي في لبنان من مغتربين وأجانب كانوا مهتمين بالتوظيف في لبنان إن عبر التوظيف المصرفي أو القطاع العقاري أوالفنادق وغيره فضلا عن تراجع مردود الحركة السياحية مع تدهور المناخ الاستثماري والسياحي على حد سواء مع اندلاع الأزمة في سوريا واضطراب الأوضاع في المنطقة واللجوء للدعم الدولي لمساعدة النازحين ومحاولة دعم المناطق المضيفة التي شهدت تدهور كبير بمؤشرات التنمية فيها...
 ومع تقلّص قدرة لبنان على استقطاب الرساميل، وبداية عجز ميزان المدفواعات يعني الخروج الصافي سنويا للدولار الأميركي ، انكشف أكثر هول الميزان التجاري حيث نستورد ب20 مليار دولار ونصدّر ب 3 مليارات دولاراتن فيما كانت القطاعات الزراعية والصناعية تستغيث منذ سنوات دون جدوى وتناشد بخلق توازن بينها كقطاعات انتاجية وسواها من القطاعات الخدماتية المهمة طبعا ولكن أقله لتأمين الحد الأدنى من "الأمن الغذائي" الضروري لتحمّل أي خطر أزمات أو حصار كما كان يفترض أن يكون الدرس من حرب تموز 2006 أو شح دولار كما هو حاصل اليوم أو أقله لتأمين مدخول أفضل بالدولار في ظل السعي الجاخد لتثبيت سعر الصرف على 1507.5 من العام 1997واللجوء الدائم لاحتياطي الدولار لدى المصرف المركزي لهذه الغاية...
وللمصارف هم القروض الخاصة المتعثّرة وليس فقط دين الدولة!
لقد أصبحت الأزمة المالية تغطس معها الوضع النقدي والمصرفي وتزيد السعي لاستقطات المزيد من الدولارات التي تشح سنويا مهما كان الثمن (أي عمليا مهما ارتفعت الفوائد وانكمش الاقتصاد وزاد الخطر على احتياطي الدولار واستقرار سعر الصرف...) في أن للمصارف هم آخر لا يقل أهمي عن مخاطر الدين السيادي للدولة وهو تدهر الاقتصاد والصعوبات التي تعتري المؤسسات اللبنانية الخاصة في استكمال نشاطها وإيفاء قروضها للمصارف! وهنا من المستغرب كيف أن الخطة اليوم حصرت استخدام رساميل المصارف بتغطية عجز القطاع العام عن تسديد متوجباته لها وغاب عنها أن على هذه المصارف أن تتحمّل أيضا صعوبة القطاع الخاص في تسديد قروضه في ظل الازمة الحالية والنمو السلبي الذي حسبته بدقة..
الإصلاح والصندوق السيادي (صدوق التعافي) وإشراك القطاع الخاص
وعلى الرغم من أولوية إنقاذ الجهاز المصرفي حفاظا على حقوق المودعين والمساهمين وجميع الأفرقاء المتضررين من الأزمة، يبقى الهاجس الأساسي في ضمانة عدم تكرار المسببات الجوهرية للأزمة طالما لم يتم معالجة أسسها قبل تداعياتها! فإذا بدأ ال Bail in اليوم انطلاقا من مساهمة أصحاب الودائع التي تفوق ال100 ألف دولار واستمر العجز وعاد ارتفاع الدين العام، ما الذي سيحصل؟ ألا  يضطروا للبحث بمساهم الودائع الأصغر؟

فطالما أن الخلل الأساسي يكمن في المالية العامة، أين الآليات الإصلاحية المطلوبة من تخفيف عبء القطاع العام وثقل حجمه الذي يساوي أكثر من ضعف المعدّل الدولي؟ أين الحل الجزري لقطاع الكهرباء الذي يستنزف مالية الدولة دون تأمين الخدمة الكاملة المطلوبة منه منذ سنوات؟ أين الإصلاحات المطلوبة من ضبط المرافق العامة وأي أرقام يمكن أن تحقّقها بعد جملة الدراسات بشأنها؟ والأهمّ من كل ذلك طالما أن أساس العجز في المالية العامة والدولة لديها الكثير من المرافق والممتلكات وقد تمت الاشارة لها في الصفحة 20 من خلال خيار إنشاء "صندوق التعافي" لما لا تكون فرصة لإشراك القطاع الخاص لتحصيل حقوقه الموظّفة في القطاع العام؟ وهنا الخيار السليم الذي يحمّل مسؤولية المديون المساهمة في الحل من خلال النظر الى كيفية استخدام ممتلكاته لتغطية حقوق الدائنين قبل رمي الطابة في ملعبهم وشطب القطاع المصرفي الذي أقرضه وإعادة رسم خارطة مالكيه؟ بعيدا عن جدلية "الخصخصة" وفعالية إدارة القطاع القطاع مقابل أهمية تأمين خدمات أساسية بأسعار تسمح للجميع الحصول عليها وخطورة رميها بأيدي الاحتكار الخاص دون ضوابط متشددة ومراقبة من هيئات رسمية... إلا أن المتّفق عليه هو أهميّة إشراك القطاع الخاص على طريقة PPP  أقلّه لاستعادة حقوق المودعين والدائنين من خلال مردود المؤسسات العامة ولكن الأهم والأبعد من ذلك بهدف تطويرها بما يشكّل فرصة لتفعيل أدائها وزيادة قيمتها وتحويلها الى مؤسسات مربحة وناجحة ممكن أن تصبح أسهمها في البورصة مصدر إستثمار جذاب وواعد للمستقبل... فهل يتم التقاط هذه الفرصة وتحويل التجاذب بين الدائن والمديون الى فرصة للنهوض معا؟؟

وبعد صغار المودعين... ما مصير الطبقة الوسطى؟


  (07-04-2020) وبعد صغار المودعين... ما مصير الطبقة الوسطى؟


د سهام رزق الله (أستاذة محاضرة في جامعة القديس يوسف – كلية العلوم الاقتصادية)
بعد سلسلة تعاميم المصرف المركزي أسئلة كثيرة بانتظار صدور الآليات التطبيقية  بين أولوية حماية صغار المودعين وضرورة الحفاظ على الطبقة الوسطى المحرّكة الأساسية للاقتصاد الوطني ومصدر كل استقرار اجتماعي فيه كون الطبقة  الضعيفة مرهقة تحت خط الفقر والطبقة الغنية حوّلت حركتها نحو الخارج  ماليا واستهلاكيا واستثماريا... ومع كثافة الاجراءات الساعية الى طمأنة ما تم تصنيفه ب"صغار المودعين "، لا بد من جملة تساؤلات بشأنهم كما بشأن "حماية صمام الأمان للاقتصاد" من خلال حماية الطبقة الوسطى فيه التي تجهد لاعادة تكوين ذاتها بعد كل ضربة تضخم وتدهور لسعر الصرف نسف قدراتها الشرائية... فكيف تبدو صورة التصنيفات بين صغار المودعين ومتوسّطي الحال؟ وأي اسئلة حول سبل حمايتهم؟
****************************
وانطلق النقاش بعد صدور تعميم مصرف لبنان كخطوة اوّليّة تم وضعها في إطار حماية "صغار المودعين" التي تقلّ مجموع دائعهم ي مصرف معيّن عن خمسة ملايين ليرة لبنانية او ثلاثة آلاف دولار أميركي، يسمح لهم  بسحبها بالليرة بمبلغ  يحفظ قيمتها الشرائية بعد تدهور سعر صرف الليرة مؤخرا ازاء الدولار، مع اعتماد مبلغ بالليرة يوازي قيمتها بالدولار على أسعار سعر صرفه في السوق، لتكون النتيجة مضاعفة حجمها تقريبا عما هو عليه اليوم ان كانت اليوم بالدولار أو بالليرة في المصرف... بعض الأسئلة يمكن اسنتاج أجوبة لها وبعضها الآخر سينتظر ىليات تطبيق التعميم واستكماله بجملة تعاميم موعودة لتشمل أوسع شريحة ممكنة تطرح علامة استفهام فاصلة بين ما يعتبر ضرورة حماية "صغار المودعين" الى ما هو "حماية الاقتصاد" بر الحفاظ على "الطبقة الوسطى" فيه ...
لا شك أن البحث عن تحديد سقف الودائع الصغرى والمتوسّطة بدأ يتزايد منذ بداية الحديث عن احتمال اللجوء الى "هيركات"/اقتطاع على الدين العام للدولة من شأنه أن ينعكس على المصارف والتي في حال   Bail in صعوبة امتصاص خسائره من خلال رساميلها الخاصة ممكن أن دفعها الى "بايل ان "
تعرض فيه على الزبائن فوق خط "صغار المودعين" المشاركة بزيادة رساميلها والتحوّل الى مساهمين.
وقد ارتقب كثيرون أن يكون الحد الفاصل 200 الف دولار بعد جملة أحاديث إعلامية تناولت هذا المبلغ ان بشكل مباشر أو غير مباشر.. كما اعتمد آخرون مقاربة جمعية المصارف ومصرف لبنان لرفع السقف من خمسة الى الى 75 مليون ليرة في مؤسسة ضمان الودائع ليعتبرونه السقف الفاصل الأدنى الممكن...
وإذ بالحسابات تختلط من جديد مع تعميم المصرف المركزي حول الاجراءات الاستثنائية للسحوبات النقدية من الحسابات الصغيرة لدى المصارف أعاد خلط الأوراق مع اسهدافه حصرا ذوي الودائع التي لا تتخطى 3 آلاف دولار أو 5 ملايين ليرة، ولو انه اشيع أن ثمة خطوات مماثلة ستشمل المشهد للمودعين في المرحلة المقبلة. علماً انّ الفئة التي تستفيد من هذا التعميم تشكّل 61,8 % من الحسابات في المصارف، وعددها يقارب 1.715283 حساب ( مليون وسبع مئة وخمسة عشر الف ومئتين وثلاثة وثمانون حساب) بمجموع يوازي 795 مليون دولار أميركي.
مما يحمل المواطنين على طرح جملة أسئلة:
أولا: وفق أي معايير تم اعتماد تصنيف "صغار المودعين" فقط بذوي الودائع التي لا تتخطة 5 ملايين ليرة لبنانية أو 3 آالاف دولار أميركي فقط غير؟
ثانيا: هل هذا التعميم يستهدف أصحاب الودائع التي لا تتخطى السقف المذكور في مصرف واحد أو مجموع حساباتها في جميع المصارف العاملة في لبنان؟ وماذا يحصل في حال كان للمودع عدة حسابات في عدة مصارف لا يتخطى كل منها ال3 آالاف دولار أو ال5 ملايين؟ الأرجح أن يكون الجواب هو اعتماد السقف في المصرف الواحد، ولكن التأكيد ينتظر التوضيح في آلية التطبيق.
ثالثا: هل الاجراء يشمل جميع اللبنانيين من لبنانيين وغير لبنانيين؟ الأرجح أن الجواب نعم كون المصارف لا تميز بين المودعين المقيمين وفق جنسياتهم، بل التصنيف يميّز فقط بين المقيمين وغير المقيمين ومن المستبعد أن يكون غير المقيمين معنيين بهذه السقوف من الودائع الصغرى..
رابعا: هل أن الحسابات المعنية ينبغي اقفالها عند سحب المبلغ الكامل وفق اللآلية المقترحة؟ الأرجح أن الجواب نعم، وبالتالي هذا يعني أن التعميم لا يشمل الحسابات الجارية لتوطين الرواتب كون الأرجح ألا يبادر أصحابها الى اغلاقها للاستفادة من الاقتراح ثم فتح غيرها في الظروف الراهنة...
خامسا: الى أي مدى يمكن لضخ المزيد من العملة اللبنانية أن يزيد من نسبة التضخّم ومن تآكل المزيد من القدرة الشرائية لذوي الدخل المحدود؟ الجواب مرتبط بالكمية المرتقبة من السيولة الجيدة بالليرة التي يمكن أن يتطلّبها هذا الاقتراح ومدى تجاوب صغار المودعين للاستفادة منه والحجم النهائي الذي سيتطلّبه ذلك من ضخ المزيد من العملة الوطنية..
سادسا: الى أي مدى يمكن أن يتجه المستفيدون من هذا التعميم الى الصرافين لاستبدال ما سحبوه بالليرة بالدولار الأميركي؟ أي ضغط ممكن أن يتسبب ذلك في سوق القطع وخطر ارتفاع سعر الدولار أكثر؟ الجواب غير محسوم كون سعر شراء الدولار سيكون أعلى من سعر المبيع الذ حصلوا على النقود على أساسه، مما سيجعلهم تحمّلون خسارة في شراء الدولار...الا اذا ارادوا احتمالها للحفاظ على القيمة الشرائية للنقود المسحوبة ازاء التضخّم ومخاطر تدهور اضافي لسعر الصرف...
سابعا: هل أن هذا الاجراء منفرد أو هو يندرج ضمن سياسة اقتصادية-اجتماعية اصلاحية شاملة من شأنها أن تتبلور بجملة اجراءات لاحقة تعني بقية الشرائح من المودعين؟
ثامنا: كيف يمكن قراءه هذه الاجراءات ضمن رؤيا شاملة للقطاع المصرفي وامكانية استعادته لثقة المودعين ليستعيد هو دوره الطبيعي في الحياة الاقتصادية وفي استقطاب الودائع الضرورية لتحريك نشاط مختلف بقية القطاعات والحفاظ خاصة على صمام الأمان لكل اقتصاد وهو "الطبقة الوسطى"؟
علما أن مفهوم صغار المودعين الذي اعتمدته مؤسسة ضمان الودائع، 75 مليون ل.ل. أو ما يعادلها بالدولار الأميركي(50 ألف دولار) عملاً بالتشريع الجديد الذي أدرجه المجلس النيابي مؤخّراً في قانون الموازنة يتغطّي هذه الضمانة شريحة واسعة من المودعين بحدود 2,5 مليون مودع ونسبتها تفوق 86% من عدد الزبائن. وعليه، يقارب حجم الودائع المضمونة بالقانون 13 مليار دولار، ما يشكّل نسبة أقلّ بقليل من 8% من حجم الودائع كما كانت في منتصف شهر تشرين الأول 2019، علماً أن ودائع هذه الشريحة من المودعين تتوزّع وفق معطيات ودراسات جمعية المصارف مناصفةً بين الليرة والدولار (50%-50%). خلافاً للتوزّع العام للودائع: 27% بالليرة مقابل 73% بالدولار..
من هنا تكون الحماية الفعلية لصغار المودعين ومتوسط الحال من ذوي الدخل المحدود بالليرة اللبنانية فعلاً لا قولاً من خلال تأمين استقرار سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي وضبط تفلت التضخّم بالارتفاع الهئل للأسعار بما يتآكل قدرتها الشرائية!
ووفق أرقام جمعية المصارف نهاية شهر شباط 2020 يتبيّن أن أكثر من %90  من المودعين لا تتخطى ودائعهم 100 ألف دولار ويحوزون على ما دون 14% من مجموع الودائع، أي 22,5 مليار دولار بينما تبلغ حصة 98% من المودعين حتى 500 ألف دولار وما دون 40% من الودائع ، أي 61,6 مليار دولار.
وهنا صلب البحث في "حماية الاقتصاد اللبناني" عبر الحفاظ على مدّخرات الشرائح المنتمية إلى الطبقة الوسطى المحرّك الرئيسي للاقتصاد الوطني، التي جهدت في إعادة تكوين ذاتها والمساهمة في اطلاق عجلة الاقتصاد بعد الضربة القاسية التي تلقّتها في الثمانينات مع التضخّم الهائل الي تخطى معدله عام 1987 حدود 487% ما أفقد الثقة بالعملة الوطنية وأشعل موجة الدولرة والهروب من الليرة حتى تخطى سعر صرف الدولار 2850 ليرة عام 1992 قبل أن يبدأ ضبطه بسياسة نقدية متشددة.. وطبعا في فترة لم يكن فيها لبنان في هذه الحال من المديونية غير المستدافة والتخلّف عن الدفع وافتقاد السيطرة على مجرى الخروج الصافي للدولار بتراكم عجز ميزان المدفوعات منذ العام 2011 حتى اليوم!
وهنا أيضا تكون حماية ذوي الدخل المحدود عبر سياسة اصلاحية شاملة تحمل ضبط عجز المالية العامة وكرة الثلج المتنامية للدين العامة التي أفقدت ثقة البلدان المانحة فيه للمرة الأولى في تاريخه!
 كذلك تكون حماية صغار المودعين ومتوسطي الحال من ذوي الدخل المحدود بضبط موازٍ للعجز الخارجي المتمثّل بشكل أساسي في عجز ميزان المدفوعات الجارية. وكان ينتج الأخير في لبنان عن العجز التجاري، أي عن الفارق بين الصادرات والواردات، فيتم تعويضه بفائض ميزان الرساميل الذي لم يعد يتمكّن من هذه المهمة مع تراجع حركة اجتذاب الرساميل والاستثمار والسياحة الى البلاد بشكل متزايد منذ العام 2011، علما أن هذه الأنشطة تحتاج أولا مناخ استثماري وسياحي مؤاتي وجو ثقة قبل أي اجراءات تقنية بين معدلات فوائد وتسهيلات تنفيذية وغيرها من الحوافز...
على أمل أن تكون الاجراءات المتخذة تباعا خطوات أولى في رحلة الألف ميل للحفاظ على حقوق المودعين، جميع المودعين، وهم الأساس في قطاع مصرفي لا طالما شكّل العمود الفقري للاقتصاد اللبناني ولا بد له أن يستعيد دوره في هذا الاطار حماية للاقتصاد ككل بشكل مستدام وليس انقاذا مؤقتا للحد الأدنى من الحقوق فيه. فهل بدأنا نخط خارطة طريق إنقاذية شاملة؟ ووفق أي أفق زمني؟ وأي نظرة مستقبلية يمكن ترقبها؟

بعد عرض الأوضاع لحاملي اليوروبوند: أرقام تخلط الحسابات !

بعد عرض الأوضاع لحاملي اليوروبوند:
أرقام تخلط الحسابات ! 30-03-2020
د سهام رزق الله (أستاذة محاضرة في جامعة القديس يوسف – كلية العلوم الاقتصادية)
مع المبادرة اللافتة في التقديم المباشر عبر الانترنت للعرض الأول للحكومة اللبنانية إلى دائنيها حاملي اليوروبوند أرقام كثيرة طرحت للمرة الأولى وأعادت خلط أوراق عديدة وحسابات كثيرة في النظرة المستقبلية الى الخيارات الاقتصادية للبنان. ما هي أبرز الأقام الملفة في القراءة التي تم تقديمها من قبل وزارة المال الى دائنيها بشكل خاص بالعملة الأجنبية وأي إشكاليات تحمل في انعكاساتها المنتظرة على الاقتصاد اللبناني ككل؟ الاجابات تصبح تساؤلات تتطلّب حسن الاوقف عند أبرز الأرقام المذكورة، الاستفسار حول وقعها على الأفرقاء الاقتصاديين في الداخل والخارج كما الاجراءات التي يمكن أن يتتطلّبها التعامل معها في المرحلة القادمة.
**********************
في أبرز الأرقام التي من شأنها أن تعكس امكانية استدامة الدين العام لا بد من التوقّف عند نسبة الدين العام / الناتج المحلي التي تفرض المعيرر المعروفة دوليا أن ينبغي ألا تتخطى حدود 60 الى 80 %  لتمكين الاقتصاد من الخروج من استعادة الثقة بالقدرة على ايفتء ديونه وطمأن دائنيه الى سبل الخروج من دوامة الاستدانة لتسديد فوائد الدين وتنامي المديونية ككرة الثلج... وهنا كانت المآخذ في قراءة الموازنات السابقة التي كانت تطرح أرقام طموحة لنسبة الدين العام/الناتج المحلي بالتوازي مع ازدياد العجز المالي والدين العام وكأن الرهان كان على تكبير حجم الناتج المحلي المتوقّع ببداية كل سنة فيكون حصاد النتيجة مخيبا في نهايتها. أما في العرض الذي قدّمته وزارة المال للدائنين فجاء توقّع يانكماش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 12٪ في عام 2020 ، بعد الانكماش الأول بنسبة 6.9٪ في عام 2019، ليعيد النظر بمسار استدامة الدين ككل ويطرح سيناريوهات جديدة لنسبة الاقتطاع من الدين العام التي يمكن أن يحتاجها لبنان ليصبح على مسار الاستدامة على ضوء الانكماش المرتقب للناتج المحلي.
وقد تبيّن من عرض وزارة المال أن الحكومة تخطط لإعادة هيكلة الدين بالدولار - على سندات اليوروبوند - ولكن أيضًا الدين بالليرة اللبنانية - على سندات الخزينة - من أجل جعلها أكثر استدامة واتساقًا مع خطة الإنعاش الاقتصادي قيد الاعداد. علما أن  الدين العام بالدولار يبلغ 31.314 مليار دولار. علما أن مقاربة إعادة هيكلة سندات اليوروبوند ينتظر أن تعتمد بشكل كبير على مقدار الاحتياطيات بالعملة الأجنبية التي ستكون بتصرف الدولة والمصرف المركزي وما ستؤمنه من هامش تحرّك.
كما تمت الاشارة الى شمول إعادة الهيكلة للدين بالليرة ، الذي يعادل 57.072 مليار دولار ، وهي ستعتمد على الموارد التي ستكون ممكنة بالليرة اللبنانية وبشكل أدق على الفائض الأولي المرتقب على المدى المتوسّط ، أي الرصيد بدون احتساب خدمة الدين (الفوائد على الدين العام)
في عام 2020 وحده ، كان على لبنان سداد 4.7 مليار دولار على شكل كوبونات وسندات يوروبوند الرئيسية. “بدأنا بسداد القسائم لشهري يناير وفبراير ، والتي تمثل حوالي 100 مليون دولار. لن يتم سداد المبلغ المتبقي 4.58 مليار دولار حتى يتم التوصل إلى اتفاق. ومن المتوقع أن يسدد لبنان ما يعادل 10.3 مليار دولار من سندات الخزينة في عام 2020.
وقد تمت الاشارة الى أن دينامية الدين / الناتج المحلي الإجمالي ستكون على أساس ثلاث معايير:
 (1) تكلفة إعادة التمويل التي تطلبها الحكومة للسنوات القادمة،
(2) توقعات النمو مع مراعاة الوضع في لبنان والمنطقة والعالم،
و (3) الفائض الأولي الذي ستنجح الحكومة في تحقيقه
وقد أظهر العرض أإن الاحتياطيات النقدية لمصرف لبنان في انخفاض مطرد في السنوات الأخيرة. وقد أعلن أن احتياطيات المصرف المركزي تبلغ حوالي 22 مليار دولار أميركي ، منها 18 مليار دولار كإحتياط الزامي على الودائع المصرفية (يسازي 15% من مجموع الودائع بالعملات الأجنبية والتي كانت مقدّرة بحوالي 120 مليار دولار) علما أن الودائع المصرفية تراجعت منذ النصف الثاني من العام 2019 ، حيث انخفاض بحوالي 5 مليارات دولار في كانون الأول 2019.
هذا العرض يمكن أن يوحي أن ما تبقى فعليا لدى المصرف المركزي، كفارق بين مجموع الاحتياطي بالعملات الأجنبية والاحتياطي الالزامي على الودائع هو 4 مليارات دولار، ولكن في الواقع ثمة 52.2 مليار مليارت دولات توظيفا للمصارف لدى المصرف المركزي على شكل شهادات إيداع بمردود بين 7 و8 في المائة مما يرفع التزامات المصرف المركزي تجاهها الى حوالي 70 مليار دولار أميركي، ما يطرح علامات إستفهامحول هامش التحرّك الحقيقي الذي سيعتمد لبناء الخيارات المستقبلية عليه لجهة اعادة هيكلية الدين بالعملة الأجنبية والاصلاح المالي الاقتصادي الشامل الموعود.
في حين تظهر إحصاءات جمعية المصارف توقّع انكماش في إجمالي الناتج المحلي بنسبة لا تقل 5 في المائة وتسجيل الدين العام اللبناني زيادة ملحوظة ناهزت 6.5 مليارات دولار، ليصل إلى نحو 92 مليار دولار في نهاية العام 2019، بارتفاع 7.6 في المائة. على خط مواز، كان من الملفت التشديد على أهمية  إصلاح القطاع المصرفي الذي طالما مثّل العمود الفقري الاقتصاد اللبناني،  وهو يتحلى بأهم المؤشرا عالميا منها نسبة الأصول / الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 422٪. .. الا أن أزمة القطاع المصرفي، المطالب طبعا مثلما ورد في العرض بالمشاركة أكثر في تمويل الاقتصاد، تكمن في نسبة انكشافه على الدين السيادي والذي لا يقتصر على الدين العام ومنه حوالي 14 مليار بالدولار الأميركي، إنما أيضا بالتوظيفات التي ذكرناها في المصرف المركزي وتحديدا ال70 مليار بالدولار الأميركي.. وهنا السؤال عن كيفية تصوّر اعتماد النهوض على القطاع الذي سيتكبّد بدوره أعباء إعادة الهيكلة التي يبدو أنها ستطاول جميع مكوّنات الدين العام بالدولار وبالليرة اللبنانية وأكثرها محمول من الجهاز المصرفي (المصارف التجارية والمصرف الركزي)   
كما من الملفت ايضا الرقم المتوقّع للتضخّم عام 2020 الذي سيصل إلى 27.1٪ وهو يعكس عمليا تضخما مزدوجا، تضخما "مستوردا" ناتجا على اضطرار المؤسسات المستوردة الى شراء الدولار من السوق الموازي لدى الصرافين للتمكّن من تحويله الى الخارج واستيراد المنتجات مما يعيد النظر بفوائد التمسّك بتثبيت سعر الصرف الرسمي تحت راية تفادي تدهور القدرة الشرائية للمواطنين ذوي الدخل المحدود بالليرة اللبنانية طالما لا إمكانية للمستوردين لشراء الدولار من المصارف على أساسه ولا لتحويله عبرها للاستيراد وإبقاء الأسعار على مستوياتها السابقة حفاظا على القدرة الشرائية. معدّل التضخّم يبرهن أن المستوردون والموزعون والتجار يضطرون للتعامل على التعال بسعر دولار السوق الموازي لاستيراد المنتجات ويعكسون أسعادها على المستهلكين التدهورا واضحا بقدرتهم الشرائية ولا يجدون مأمنا لهم بسعر الصرف الرسمي... أما اختيار المنتجات اللبنانية فهو أيضا لا يحمي المستهلكين من ارتفاع الأسعار كون معظم هذه المنتجات وفق الصناعيين اللبنانيين تعتمد على استيراد موادها الأولية وبالتالي تفع كلفة إنتاجها مع شراء الدولار من السوق الموازي فينعكس هذا الارفاع زيادة في أسعارها...ولا تتأثر بثبات سعر الصرف الرسمي.    وقد أقرّ عرض وزارة المال بانخفاض قيمة الليرة اللبنانية بحكم الواقع بأكثر من 67٪ في سوق الصرف الموازي... ويبقى السؤال حول إمكانية أن تشمل المقاربة الاصاحية إعادة النظر أيضا بخيارات سياسة القطع على ضوء مقارنة تكاليفها المتزايدة وفوائدها غير المنظورة حاليا مع تدهور القدرة الشرائية للمواطنين بفعل "التضخّم المستورد" وطغيان سعر صرف السوق الموازي الذي بات المكان الوحيد لتأمين الدولار للمستوردين (خارج مجال الأدوية والمواد الطبية والمحروقات والطحين المؤمنة بالسعر الرسمي للدولار).
وأبعد من مسألة تقييم الفوائد/التكاليف في سياسة سعر الصرف ومسألة احتساب ما تبقى من إجتياطي بالعملات الأجنبية للدفاع عن استمراريتها، يبقى السؤال الى أي يمكن يمكن أن تتماهى مع وضع ميزان المدفوعات الذي يشهد تزايدا في عجزه منذ العام 2011 (ما عدا استقطاب بعض الرساميل بالدولار للمساهمة في الهندسات المالية عام 2016)، مع صعوبة استقطاب رساميل تعوّض عن العجز التقليدي في الميزان التجاري...وهنا يبقى القول أن بالرجوع الى الثالوث المستحيل Triangle des incompatibilites   
الذي يؤكد في علم الاقتصاد على استحالة اعتماد في الوقت نفسه استقلالية في السياسة النقدية للمصرف المركزي، تثبيت سعر الصرف وحرية حركة الرساميل في آن معا..بل فقط اثنان من الثلاثة
وبعد أن كان ذلك معروفا علميا وثبت في لبنان حتى بالتجربة، هل يكون الاختيار عن الخيار وقع على الاحتفاظ بالتمسّك بتثبيت سعر الصرف لو في غياب عمليات التحويل المصرفي بين العملات والتخلي في المقابل عن حركة الرساميل؟ وهل هكذا خيار قابل للحياة في بلد يعيش في حرية حركة الرساميل منه واليه لدوره كصلة وصل في مختلف القطاعات الخدماتية؟ أم هنالك رؤيا لدور إقتصادي جديد للبلد ووفق أي معايير وأي دراسة نتائج؟  
__________________

المحتمل Haircut أسئلة في مرمى ال

المحتمل Haircut أسئلة في مرمى ال
 د. سهام رزق الله (أستاذة محاضرة في جامعة القجيس يوسف – كلية العلوم الاقتصادية) 21-03-2020 
 Haircut وبالانكليزية ب  Decote   بما أن سياسة "الاقتطاع" أو ما يعرف بالفرنسية ب
بات مؤخرا تعبيرا مألوفا حتى لو تعدد استخدامه أحيانا فير غير محلة، وهو الذي أساسا مخصّص حصريا للدين السيادي للدولة العاجزة عن سداده كاملا، لا بد من العودة الى التعريف الحقيقي لهذا المفهوم الاقتصادي لمرة واحدة وتحديد دافع وأطر تطبيقه والأفرقاء المعنيين به. ويبقى السؤال الرئيسي أي انعكاسات منتظرة عادة من الاقتطاع بالنسبة لمختلف الأفرقاء المعنيين به؟ وأي أسئلة يحملها "الاقتطاع المحتمل للدين السيادي للبنان على عتبة إقرار قانون الحد من حركة الرسميل أو ما يعرف بالانكليزية بال
؟Capital control
************************
بداية لا بد من الاشارة الى دراسة خصائص الدين العام تتطلّب هيكلية الدين العام بمعنى توزّعه بين دين داخلي ودين خارجي، تصنيف الدين السيادي وتطوّر المؤشرات الرئيسي لهذا الدين بما يسمج بقراءة استدامته وإمكانية الدولة المعنية على تسديده.
أما"الاقتطاع" فهو يرتبط بقرار الدولة غير القادرة على السداد الكامل وبأوقات الاستحقاق لديونها، مما يدفعها لطلب إعادة هيكلتها إن باتجاه اعادة الجدولة باستبدال سندات مستحقة بتاريخ معين بسندات أخر بآجال أبعد، إما تقترح الدولة المعنية على الدائنين استبدال السندات التي يحملونها بأخرى أقل فوائد فتكون بذلك "اقتطعت" من مردودها، أو تتفاوض مع الدائنين على تخفيض أصل الدين لعجزها عن سداده كاملا ويشكّل ذلك خسارة لأصل المبلغ المستثمر من المكتتبين بسنداتها. هؤلاء المكتتبون يمكن أن يكونوا أفرادا عاديين يستثمرون بالسندات على الصعيد الشخصي، كما يمكن أن يكونوا مصارف (مصرف مركزي أو مصارف تجارية) أو صناديق داخلية أو خارجية.
في ما يخص لبنان، يتم اعتماد تعبير دين داخلي عند الحديث عن الدين بالليرة اللبنانية ودين خارجي بالاشارة الى الدين بالعملات الأجنبية، وذلك خلافا للعلم الاقتصادي الذي يصنّف بالدين الداخلي الدين المحمول من المقيمين وبالدين الخارجي الدين المحمول من غير المقيمين. وبما أن قسم كبير من الدين اللبناني بالعملة الأجنبية تحديدا هنا الدولار الأميركي (اليوروبوند) الذي مجموعه حوالي 30 مليار دولار، محمول من مقيمين فهو يبقى داخليا (محمول بشكل أساسي الجهاز المصرفي: مصرف لبنان يحمل 5.7 مليار دولار والمصارف التجارية تحمل حوالي 14 مليار دولار من اليوروبوند).علما أن المصارف باعت جزءا مهما من السندت المستحقة بخسارة للتخلّص منها مع انتشار جو من توجه الدولة الى وقف السداد.
ويبقى أكثر مما يوازي 55 مليار دولار من "الدين الحكومي" بالليرة اللبنانية على شكل سندات خزينة، اذا اعتمدنا مجموع ال85 مليار دولار دين عام 2019، لأن "الدين العام" يفترض أن يشمل جميع ديون المؤسسات العامة والفواتير غير المدفوعة للضمان الاجتماعي والمستشفيت العامة والمقاولين...
وعلى الرغم من أن دراسة استدامة الدين العام ترتكز بشكل عام على مؤشر الدين العام/الناتج الحلي، وهو يتخطى في لبنان عتبة 160% فيما وفق المعايير الدولية، تتطلّب استدامة الدين ألا يتخطى هذا المعدل 60% الى 80% من الناتج المحلي الإجمالي. إلا أن تسليط الضوء بشكل خاص على الدين بالعملة الأجنبية فهو يعود لكون لبنان قادر نظريا بأقسى الأحوال اللجوء الى المصرف المركزي لطباعة العملة الوطنية وتسديد الدين بالليرة اللبنانية حتى لو أدى ذلك الى المزيد من التضخّم،  ، إلا أن الأزمة الكبرى تبقى بالدين بالعملة الأجنبية التي تحتاج الى توفر العملة الأجنبية وتأمين استمرارية إستقطابها في حين أن لبنان يشهد تدهورا بميزان المدفوعات (ما عدا كمية الدولارات التي اجتذبتها المصارف للمشاركة بالهندسات المالية لاسيماعام 2016 لشراء اليوروبوند وشهادات إيداع المصرف المركزي بالعملة الأجنبية ).
لنفترض أن الناتج المحلي اللبناني يقارب 50 مليار دولار، فيكون من الضروري ألا يتخطى الدين العام بعد إعادة هيكلته ال 40 مليار دولار، أي اقتطاعا بين 55% و60% علما أن الهم الأساسي يبقى في تخفيض حصة الدين بالعملة الأجنبية.
ويلاحظ في التصنيف الائتماني الذي تقدّمه مؤسسات التصنيف العالمية ومن أبرزها مؤسسات
Fitch, Moody’s and Standards & Poor’s
تخفيض وكالة "فيتش" مؤخرا تصنيف لبنان الى  تصنيف ديون ​لبنان​السيادية بالعملة الاجنبية من "CC" الى "C" ما يعني ان ​الدولة​ باتت على اعتاب اعلانها دولة متعثرة في حال وصل التصنيف الى "D". ويأتي ذلك عقب إعلان الحكومة انها لا تنوي دفع سندات "اليوروبوندز" التي استحقت في التاسع من اذار والتي تبلغ قيمتها 1.2 مليار ​دولار​. وبحسب الوكالة، سيؤدي عدم دفع المستحقات خلال فترة السماح البالغة 7 ايام، الى وضع الدولة مع سنداتها في دائرة التعثّر.
ويتبيّن بالتالي التأثير المباشر لهذه التصنيفات على كل دولة ترغب في الاقتراض من الخارج لأن تصنيفها يعكس قدرتها على سداد هذا الدين، وكلما اانخفض التصنيف الائتماني كلما ارتفعت تكلفة الإقراض، أي عمليا نسبة الفوائد المطلوبة على السندات ليقبل المستثمرون بالمخاطر بشرائها... من هنا نفهم أن الفوائد على هكذا إصدارات تكون نتيجة المخاطرة وليس سببا لها! فلا يمكن لدولة أن تصدر سندات وتسوقها في الخارج بفوائد منخفضة في ظل تسجيلها عجزا ماليا متزايدا وتراكما للدين العام وزيادة لحصة الدين بالعملة الأجنبية (لمحاولة تخفيض خدمة الدين السنوية كون الفائدة عليه أقل من الفائدة على الليرة اللبنانية) في حين تراكم هذه الدولة عجزا في ميزان المدفوعات أي خروجا صافيا سنويا للعملة الأجنبية من اقتصادها وتراجعا في احتياطاتها بالعملة الأجنبية!
كما أن التقييم التي تمنحه أي مؤسسة لدولة يظل مرجعاً داخل عند تقييم سندات الخزينة بالعملة الأجنبية للبلد المعني والمخاطرة في الاستثمار فيها والظروف الاقتصادية العامة والتغييرات التنظيمية والاضطرابات السياسية المؤثرة بالمناخ الاستثماري...وتبين توازي تطوّر أسعار سندات لبنان مع مجمل هذه العوامل السياسية والاقتصادية في هذا الرسم البياني لوكالة بلومبرغ

كما يرافق تقييم أي دولة توقعات حول أدائها المستقبلي ففي حالة أن كانت النظرة سلبية فمعنى ذلك أن الوكالة تراقب عن كثب أداء تلك الدولة لتقديم تقييم شامل لها.
وهنا يبرز السؤال الأول من جملة الأسئلة المطروحة في مرمى "الاقتطاع"، كم ستكون نسبة الاقتطاع لاسيما في ما يتعلّق بالدين بالدولار؟ أي كم ستكون خسارة المكتتبين باليوروبوند؟
السؤال الثاني، كيف سينعكس هذا الاقتطاع تحديدا على النظام المصرف (مصرف لبنان والمصارف) التجارية التي تحمل جزءا كبيرا منها؟ وهل تتمكّن المصارف اللبنانية من امتصاص الخسارة بفضل رساميلها  الخاصة التي تبلغ 20 مليار دولار ومن المتوقع مع اصرار المصرف المركزي على زيادة رسملتها أن تبلغ حوالي 24 مليار دولار في نهاية العام؟ حسابيا اذا كانت تحمل يوروبوند بحوالي 15 مليار واقتطع منها حوالي 8 مليارت دولار يبقى الموضوع محمولا...ولكن مع الاقتطاع الشامل على مجموع الدين بالليرة اللبنانية والدولار الأميركي تصبح الخسارة أكبر.. ولكن السؤال الأهم حتى لو أبقينا البحث محصورا بهم الديون بالعملة الأجنبية، فلا بد من الاشارة الى أن انكشاف السيادي للمصارف لا ينحصر باكتتابها باليوروبوند إنما يتخطاه لما هو أكبر حجما وأكثر تعقيدا وهو الدولارت المودعة من المصارف لدى المصرف المركزي بين 18 مليار دولار احتياطي الزامي (15% من مجموع الودائع بالدولار الأميركي التي كانت مقدّرة بحوالي 120 مليار دولار) وحواي 52 مليار دولار ودائع حرة وشراء شهادات ايداع بالدولار الأميركي تشكّل التزامات بالعملة الأجنبية على المصرف المركزي وفق وكالة بلومبرغ..
وفي حين كان مصرف لبنان المركزي قد أعلن في نهاية شباط أن قيمة الاحتياطي من العملات الأجنبية لديه يبلغ 35.8 مليار دولار، منها 5.7 مليار دولار يوروبوند، أي حوالي 29 مليار دولار بدون اليوروبوند وقد استخدم 7 مليارات منها لإعطائها للمصارف" لتلبية التزاماتها، فلا يكون تبقى أكثر من 22 مليار دولار. كما أن ما يحمله المصرف المركزي من يوروبوند بحوالي 5.7 مليار دولار سيكون خاضعا بدوره للاقتطاع المحتمل...هذا أيضا دون التطرّق للمبالغ المودعة بالليرة اللبنانية والتي تم تحمل أيضا المصارف اكشافا سياديا عليها...
أما مع صعوبة امتصاص المصارف لمجمل هذه الخسائرالمحتملة، بين الاقتطاع على الدين العام وبشكل خاص الخسارة المنتظرة على اليوروبوند وأزمة ودائعها بالدولار الأميركي لدى المصرف المركزي، من خلال رساميلها الخاصة أي من المساهمين في المصارف ، يصبح السؤال المقلق للمودعين حول ما يمكن أن يطلب منهم؟
 (bail-in) " ومع الحرص على حقوق المودعين، يبقى الممكن أن يطرح عليهم هو ما يعرف "إنقاذ داخلي للمصارف من أموال المودعين، على النحو الذي جرى في قبرص إبان أزمة الديون اليونانية، أي اللجوء الى كبار المودعين لعرض مشاركتهم بجزء من ودائعهم بتعويم المصارف أي المساهمة فيها للحفاظ عليها وعلى حقوقهم أولا عبر استمرارية القطاع الأساسي لكل عملية إنقذ للاقتصاد الوطني واستعادة جميع الحقوق واحياء عملية التمويل لمجمل الدورة الاقتصادية...
وهنا أيضا جملة أسئلة أهمّها: أي مبلغ سيطلب تأمينه من أموال المودعين عبر شرائهم لأسهم في المصارف؟ وأي شريحة من المودعين يمكن أن تعرض عليم هذه المساهمة؟ بمعنى آخر، ابتداء من أي مبلغ وديعة يمكن اعتبار زبون المصرف من كبار المودعين فيه؟  وهل ستعرض نفس النسبة للمساهمة على جميع المودعين أصحاب الودائع التي تفوق السقف المطروح أما ستكون النسب تدريجية تصاعدية؟ وما سيكون مصير من يعتبر من صغار المودعين ولا يشارك في عملية المساهمة في المصرف؟ هل سيتم تحرير وديعته بالعملة الأجنبية أم وفق شروط أخرى أم سيعرض عليها تجميدها وأيضا وفق أي شروط؟
يبقى القول أن مقابل تشخيص الوضع من جهتي المالية العامة  والجهاز المصرفي بات واضحا، ولو أن توزيع الخسائر يطرح علامات استفهام كثيرة. ولكن ثمة آفاقا أبعد تحتاج اليحث أيضا بأولويات إعادة الهيكلة، هل تبدأ بالدين العام حصرا؟ أم تتطلّب توازيا تبدأ إعادة هيكلة القطاع المصرفي بحيث يعرف مسبقا في أي مشهد مصرفي يمكن أن يطرح على المودعين المساهمة في عملية الانقاذ المنتظرة؟  
_____________________