mardi 25 août 2020

بعد زلزال بيروت: المسؤولية الاجتماعية أولوية!

 بعد زلزال بيروت: المسؤولية الاجتماعية أولوية!

https://www.aljoumhouria.com/ar/news/550829/%D8%A8%D8%B9%D8%AF-%D8%B2%D9...

جريدة الجمهورية
Saturday, 22-Aug-2020 06:57
محلي
بعد زلزال مرفأ بيروت أصبحت «المسؤولية الاجتماعية للمؤسسات» أولوية ملحة وطارئة، حفاظاً على سلامة الناس وصحتهم وبيئتهم المحيطة وحقوقهم السكنية والمعيشية والاجتماعية الشاملةّ! و«المسؤولية الاجتماعية» ليست مجرّد بحث في مفهوم جديد يتألّق عالمياً في مختلف الشركات والقطاعات، لتلميع صورتها وزيادة حصّتها في السوق، من خلال عمل خيري وتقديم المساعدات للمجتمع... «المسؤولية الاجتماعية» مفهوم ضروري وفق معايير «ايزو 26000» في كل المؤسسات العامة الخاصة والمشتركة وكل المرافق الحيوية من موانئ ومطارات ومحطات نقل ومؤسسات كهرباء وسدود مياه ومخازن وقود ومستودعات مواد.. ليكون عملها مسؤولاً إجتماعياً تجاه عمّالها وموظفيها وزائريها وزبائنها ومشتركيها وشركائها وسكان المناطق المجاورة لها، ولتكون أمينة وآمنة ومسؤولة تجاهها صحياً وبيئياً واجتماعياً، لتفادي المخاطر، قبل البحث في تغطية الأضرار والتعويض عن الأذى...هذه معاني «المسؤولية الاجتماعية». ومن الواضح اليوم أكثر من أي يوم مضى، كم باتت ضرورية. فعلامَ ترتكز؟ ماذا تطاول؟ وكيف تتبلور؟

من المعروف أنّ مجال الأعمال كانت تسوده ركائز الإقتصاد الأساسية القائمة على «القاعدة الذهبية» لتحقيق أعلى مستوى من الربح، بتوسيع الهامش بين المردود والكلفة الى أقصى حد ممكن، بغض النظر عن أي اعتبارات أخرى وعوامل مؤثرة ومتأثرة في محيطه على المستوى الإجتماعي والبيئي والصحي والسلامة العامة...أما المؤسسات التي يهمّها إعطاء «صورة جميلة» عن حسّها الإجتماعي والإنساني والأخلاقيات المهنية وتفاعلها مع بيئتها المحيطة، فكانت تجد ملاذاً لمرادها عبر تمويل بعض المشاريع ذات طابع المنفعة العامة والمساعدة الإنسانية (بناء جسر مهدّم من هنا، تقديم مساعدات خيرية من هناك، تخصيص مبلغ سنوي معيّن، أو نسبة من الأرباح لتقديم منح دراسية ومساعدات طبية وغيرها من هنالك...)، وتضع ذلك تحت تسمية الحس بالمسؤولية الإجتماعية، من باب المساهمة في مساعدة المجتمع لتأمين بعض الخدمات الخارجة عن إطار عمل المؤسسة وأهدافها المالية والإقتصادية البحتة.

المسؤولية الاجتماعية كتعريف سريع ترتكزعلى اهتمام المؤسسة خلال تأدية عملها، بالحرص على الاستجابة لحاجات المجتمع الذي تعمل فيه، والمساهمة في تنميته المستدامة، وليس فقط على تحقيق الأرباح.

أما الأفرقاء المعنيون بالاستجابة الى حاجاتهم فهم مختلف العملاء الاقتصاديين المعنيين بعمل المؤسسة من موظفين، زبائن، مؤسسات منافسة، إدارات عامة، هيئات مدنية من جمعيات ومنظمات غير حكومية، وسائل إعلام ... تربطها بالمؤسسة عقود عمل أو قوانين مرعية الاجراء أو أنّها تتأثر بنشاط المؤسسة وتؤثر فيه، من خلال تواصلها مع الرأي العام... فيكون على المؤسسة المسؤولة إجتماعياً أن تحدّد حاجات المجتمع الذي تعمل فيه وأولويات المشاريع التنموية المطلوبة لتتمكّن من إدراجها ضمن استراتيجياتها.

هكذا ترتقي المؤسسة من العمل الخيري الذي ينتهي مفعوله آنياً (مثل تقديم مساعدة مالية لجمعية تُعنى بالمقعدين في منطقة معينة) لتلتزم بالاستجابة الى الحاجات التنموية المستدامة للمجتمع (مثل تأمين البنى التحتية المناسبة لتنقّلهم وتوظيفهم في مشاريعها التنموية المستدامة في مختلف مناطق إنتشارهم، بحيث يصبحون مستقلين مالياً عن ذويهم ولا يعودون في حاجة الى المساعدات الخيرية).

في الواقع، وبعدما تفاقمت الأزمات الإجتماعية الى حدّ تسجيل عدم قدرة الدولة على الإستجابة لوحدها الى الحاجات الإنسانية والإجتماعية للفرد أو الجماعة، ظهر بوضوح انّ الهمّ الإجتماعي بات مسؤولية مجتمعية، يتشارك فيها الجميع، وفي مقدّمهم قطاعات الإنتاج التي تُعتبر العامود الفقري للإقتصاد، فتظهّر دور المنظمات غير الحكومية ودور المجتمع المدني، كما تبلور حديثاً مفهوم المسؤولية الاجتماعية، وتطوّر بسرعة ليصبح من أهمّ المبادئ التنموية على المستويين الإجتماعي والإقتصادي. فكان من الطبيعي ازدياد إهتمام المؤسسات والشركات في ولوج هذا الباب، إسهاماً في مداواة الحاجة الإجتماعية من جهة، وترسيخاً للعلاقة المتوازنة الضرورية على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، مع تأكيد إضطلاع الدولة بمسؤولياتها كإطار ناظم وشريك أساس في المهمة، في إطار ما يُعرف بالشراكة بين العام والخاص (PPP).

ولعلّ خير دليل على تنامي هذا الدور، ما أظهرته الإحصاءات الصادرة عن منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي ( OECD)، من أنّ مساهمات منظمات المجتمع المدني تراوحت بين 6-7 بلايين دولار سنوياً في أواخر القرن العشرين. إنطلاقاً من هذا الواقع، قرّرت الشركات والمؤسسات الوازنة في الإقتصاد ـ وعلى المستويين المحلي والخارجي ـ الإضطلاع بدور متنام ٍ في المسؤولية الإجتماعية، وبلغ هذا الدور حداً تنظيمياً متجانساً مع الحداثة، فتطورت التقديمات من عطاء عشوائي غير منظّم وغير محدّد الهدف، الى دور تنموي أساسي يشكّل جزءاً لا يتجزأ من أنشطتها، يعتمد على خطط ـ برامج، منظمة، وواضحة الأهداف والمعالم لمساعدة المجتمع والمشاركة في العملية التنموية بنحو فعّال، يفضي الى كسب ثقة المجتمع وبالتالي ضمان النجاح في تحسين الأوضاع الإجتماعية وتثبيت الإستقرار الإجتماعي الإقتصادي المرجو.

على النطاق العربي، بدأ الاهتمام بالمسؤولية الإجتماعية يتنامى، وقد أُنشئت المنظمة العربية للمسؤولية الإجتماعية، التي تهدف الى رفع مستوى التعاطي مع مفهوم المسؤولية الاجتماعية على المستوى المحلي وتحويلها الى مستوى المفهوم الاستراتيجي في عمل البلديات والحكومات العربية وتعزيزها من خلال الادارة الحكيمة وتعميم ثقافتها عبر كافة الوسائل المتاحة، فضلاً عن تكريم المؤسسات الرسمية والحكومية الحائزة على شهادات الجودة العالمية «أيزو» في مجال المسؤولية الاجتماعية...

أما في لبنان، فمن الثابت انّ للمجتمع المدني دوراً كبيراً يلعبه بالتكامل والتعاون مع القطاعين الخاص والعام، فيما التحدّي الأساس في تحقيق هدفين متوازنين: تأطير دور ومدى عمل المجتمع المدني، من ضمن الاستراتيجية التنموية للمؤسسات المعنية تجاه مجتمعها بمختلف مكوناته من جهة، وتأمين الربط والتواصل المفقود بين المشاريع التي تنفذها المنظمات غير الحكومية وتوجيه التمويل المطلوب لها...

مع العلم أنّ الاضطرابات الاجتماعية والاقتصادية الكبرى في لبنان في السنوات الأخيرة، وقلّة الاستقرار السياسي والمؤسسي، أظهرتا أكثر فأكثر قصور الدولة في الاستجابة للاحتياجات الاجتماعية المختلفة.

كما من المعروف انّ كثيراً من المؤسسات في لبنان كان يعتمد مبدأ «المساعدة الإجتماعية»/ أي العمل الخيري الذي ينتهي مفعوله فور تقديمه، دون أن يكون ساهم في تحقيق التنمية المستدامة التي تؤمّنها برامج المسؤولية الاجتماعية (مبادرات لتأمين منح مدرسية وجامعية لمتفوقين غير قادرين على تسديد أقساطهم، مساعدات طبية لحالات إستثنائية مكلفة لا تشملها تغطية وزارة الصحة، أو حالات إجتماعية صعبة يتمّ تسليط الضوء عليها في وسائل الإعلام طلباً للمساعدة، الخ) أو على مساهمات في أعباء وطنية كبرى كمثل ما حصل بعد إنتهاء حرب تموز 2006 على لبنان، واليوم بعد زلزال مرفأ بيروت والكارثة التي تسبب بها في المناطق المحيطة، (حين أخذت بعض المصارف على عاتقها إعادة بناء بعض الجسور المهدّمة، والبنى التحتية المدمّرة، وبعض المقومات الإقتصادية التي قوّضها العدوان).

اليوم، بات من الضروري الإرتقاء بدور الشركات والمؤسسات التي تشكّل العمود الفقري للإقتصاد الوطني، ليصبح إلتزاماً بالمساهمة في التنمية المستدامة، من خلال العمل مع المجتمعات المحلية لتحسين مستوى معيشة الناس بأسلوب يخدم الاقتصاد ويخدم التنمية في آن واحد، وخصوصاً بعد صدور المواصفة العالمية ISO 26000 خلال تشرين الأول 2004 والتي تضمنت معايير المسؤولية الإجتماعية، وخصوصاً في الجوانب المتعلّقة بالسلامة والصحة والعامة للسكان في محيط عملها، إضافة الى الجانبين البيئي والقانوني، والشروط المتعلقة بالتنمية الإقتصادية.

يبقى القول، إنّ المسؤولية الاجتماعية باتت اليوم أولوية أكثر من أي وقت مضى، بعد أن ثبت بالألم الكارثي مدى خطورة اللامسؤولية على الأرواح والممتلكات، على سلامة الناس وحياتهم، كما المساكن والمرافق الاقتصادية والظروف المعيشية، كما ثبت أكثر فأكثر عدم إمكانية الدولة ولا أي دولة منفردة للاستجابة وحدها للكوارث الناتجة من خلل كهذا، والحاجة الى تضافر جهود كل مكوّنات المجتمع لمواجهة الأزمات.

واليوم، بعد ان تبيّنت عملياً على الأرض ديناميكية المجتمع المدني والقطاع الخاص المسؤول إجتماعياً، لا بدّ من وضع كل التدابير والتشريعات الضرورية لتسهيل وتشجيع ودعم وتأطير المسؤولية الاجتماعية للمؤسسات، طريقاً للتنمية المستدامة والسلامة العامة صحياً وبيئياً وإقتصادياً إجتماعياً بنحو مقونن ومبرمج.


بين زيادة الكتلة النقدية وتراجع النمو الإقتصادي: التضخم بلا حدود

 


Tuesday, 04-Aug-2020 06:20



بين زيادة الكتلة النقدية وتراجع النمو الإقتصادي: التضخم بلا حدود

https://www.aljoumhouria.com/ar/news/547754/%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D8%B2%D9%8A%D8%A7%D8%AF%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%AA%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%82%D8%AF%D9%8A%D8%A9-%D9%88%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D8%AC%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%85%D9%88-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%82%D8%AA%D8%B5%D8%A7%D8%AF%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B6%D8%AE%D9%85-%D8%A8%D9%84%D8%A7-%D8%AD%D8%AF%D9%88%D8%AF?utm_source=editor&utm_medium=web&utm_campaign=listnews


من يوم الى يوم تتصاعد الأسعار في الأسواق، بما يشعر المواطن أن لا ضوابط عملية للتضخم المتعدّد 


الأسباب، فيما النتيجة واحدة، متمثّلة بتراجع مؤلم في القدرة الشرائية، خصوصاً لذوي الدخل المحدود بالليرة اللبنانية. ومهما تعدّدت وتشابكت أسباب ارتفاع الأسعار، ثمة سبب رئيسي يتفاقم يوماً بعد يوم، ويتمثل بازدياد عرض الكتلة النقدية، وتحديداً السيولة المتداولة بالليرة اللبنانية، والتي تترافق مع انكماش النمو الاقتصادي، فتُترجم النتيجة بمزيد من التضخّم.. فكيف يتجّه النمو الاقتصادي ومعدّله نسبة الى الدين العام، وبالتزامن مع ازدياد الكتلة النقدية المتداولة؟

 

يشكّل النمو الاقتصادي المؤشر الرئيسي الذي يعكس منحى تطور الاقتصاد وازدهاره، حتى لو لم يكن كافياً لتظهير مستوى العيش في أي بلد، لأنّ ذلك يحتاج الى التطلّع أيضاً الى مؤشرات التنمية المستدامة، التي تشمل الركائز الثلاث الاقتصادية والاجتماعية والبيئية.. ويكفي لذلك النظر الى مسار معدّل النمو الاقتصادي في لبنان، حيث حتى في فترات تحقيق أعلى معدلات نمو لم يُترجَم ذلك تحسناً في المستوى الحياتي لناحية مثلاً تأمين التغطية الصحية الشاملة وضمان الشيخوخة والرعاية الاجتماعية للعاطلين من العمل وذوي الحاجات الخاصة والتيار الكهربائي المتواصل والمياه الصالحة بكميات كافية لكل المناطق، والبيئة النظيفة من معالجة النفايات الى مكافحة كل أنواع التلوث البري والبحري والجوي...

 

ويتبيّن تنامي نسبة الدين العام الى الناتج المحلي، التي ما لبثت أن انخفضت من حدود 180% عام 2006 الى 130% عام 2011 ، حتى عاود خطّه التصاعدي الذي تخطّى فيه حدود الـ 150% في نهاية العام 2018 ، وأكمل صعوداً مع تدهور الأوضاع عام 2019 بالتزامن مع تدهور معدل النمو من 8.25 % الى أقل من 1% للفترة عينها.. فيما كان الدين العام يكبر بحجم كرة الثلج التي تنمو بسرعة، تفوق بأضعاف نمو الناتج المحلي، مع تراكم العجز المالي السنوي وصعوبة التحكّم بمكونات الانفاق الذي معظمه جارٍ وتستحوذ خدمة الدين العام (أي الفائدة على الدين) بنحو اساسي على أكثر من 40%، وتلامس كذلك رواتب وأجور القطاع العام الـ40% من مجموع الإنفاق، وتبقى حصّة عجز الكهرباء نحو11%، فلا يبقى ما يُذكر للاستثمار العام...

 

كذلك ترتفع الدولرة التي نتجت من خيار حرّ في القطاع الخاص اللبناني، منذ تجربة التضخم وانهيار سعر الصرف في الثمانينات، والتي طاولت أخيراً دولرة جزء من الدين العام (حوالى ثلث الدين)، فضلاً عن اعتماد ربط سعر صرف الليرة بالدولار الأميركي ولو بنحو «عرفي» كون النصوص لا تدلّ الى تثبيت رسمي لسعر الصرف.. وذلك في ظل نظام إقتصادي حرّ يلتزم حرية حركة الرساميل ويتأثّر طبعاً بنتائج ميزان المدفوعات الذي يشمل الميزان التجاري من جهة (المعروف بعجزه التاريخي بين الصادرات المحدودة والواردات الطاغية التي تلبي أكثر من 80% من حاجاتنا الاستهلاكية) وميزان الرساميل (المعتمد عليه للتعويض من خلال استقطاب الرساميل الخارجية خصوصاً من المغتربين اللبنانيين والمستثمرين العرب والسياح المتعددين).

 

من هنا تتظهّر لنا خصوصية الاقتصاد اللبناني والقيود التي تكبّل حركته والتي تجعل منه نموذجاً خاصاً غير قابل للمقارنات مع سواه، قبل البحث في المعضلات التي ترهق نموّه أو تعقّد ديونه أو تُتعب جهازه المصرفي موضع البحث تحديداً.

 

أما مصرفياً، فإلى جانب الانغماس في الانكشاف على الدين السيادي للدولة وشهادات الايداع بالعملات الأجنبية، تواجه المصارف اللبنانية مخاطر إنعكاسات جمود النشاط الاقتصادي وتوقّف الطلب على التسليفات كما توقف تدفّق الرساميل من الخارج وزيادة الودائع في الداخل، بل من التوجّه المعاكس على تقليصها على يد أصحابها الى الحدّ الأدنى الممكن، إن من خلال السحوبات المستمرة بالدولار الميركي كما بالليرة اللبنانية أو من توجّه كثيرين الى ما يُعرف بأدوات الحماية من المخاطر عبر شراء الذهب أو الاستثمار العقاري، علماً أنّ لهذا الأخير إيجابيات كثيرة خصوصاً في تسييل عقارات كانت مجمّدة بفعل الأزمة، فيما أصحابها مديونون للمصارف ويهمّهم إطفاء أكبر جزء من دينهم ولو بشيكات مصرفية، بغض النظر عن إمكانية سحبها نقداً.

 

من هنا تفتح الأزمة الاقتصادية باب مخاطر القروض المتعثّرة لدى المصارف، والتي لا تقلّ أهمية عن مخاطر الانكشاف السيادي، مع الاشارة الى أنّ التسليفات المصرفية بالعملات الأجنبية للقطاع الخاص اللبنانية تبلغ نحو 32 مليار دولار، وتسعى تعاميم مصرف لبنان المركزي الى احتوائها، من خلال العمل على وضع سقوف على الفوائد الدائنة وخفض الفوائد المدينة بنحو مباشر، وتوجيه المصارف لإعادة هيكلة الديون المتعثّرة عبر إطالة الآجال، وإعادة النظر في الشروط، الى جانب الالتزام بالتعاميم الجديدة الصادرة عن المصرف المركزي، والتي تنصّ على خفض معدلات الفوائد...

 

كما أنّ الإجراءات الحالية، من ضبط حركة الرساميل بسبب الأزمة، في غياب نصّ قانوني جامع وضوابط موحّدة، جمّدت كلياً إقدام غير المقيمين وحتى المغتربين، عن إرسال التحاويل، لا بل أدّت الى قلق المقيمين على ودائعهم، إن كان بالعملات الأجنبية أو حتى بالليرة اللبنانية، مما يدفعهم يومياً الى نشاط مصرفي اتجاه واحد، هو سحب الأموال وتخزين الأوراق النقدية إن كان بالدولار أو حتى بالعملة الوطنية، ما ينسف النظام المصرفي ككل ويدفع في اتجاه الاقتصاد النقدي «cash economy»، فيضرب إمكانية استعادة المصارف دورها في التسليف، أياً كانت شروطها لافتقاد ثقة العملاء بإيداعها مدخراتهم.

 

ويبدو واضحاً أثر الأزمة ان لناحية الودائع أو التسليفات بالليرة اللبنانية كما بالدولار الأميركي في مصارف لبنان، كذلك يبدو ملحاً مراقبة معدلات مخاطرها السيادية من خلال رصد نسبة توظيفاتها بسندات الحزينة، ولا سيما منها سندات «اليوروبوند» وشهادات الايداع لدى المصرف المركزي، ولا سيما منها بالدولار الأميركي، من مجموع رساميلها الخاصة، للتأكّد من إمكانية أن يتحمّل المساهمون أي خطر إعادة هيكلة أو اقتطاع ديون الدولة، من دون الحاجة للجوء الى المودعين الكبار للمساهمة معهم...

 

أما صلب الاشكالية، فلا يكمن فقط في تراجع النمو، بل في تنامي الكتلة النقدية والسيولة بمعدلات هائلة تنعكس تضخماً مفرطاً تدهور القدرة الشرائية للمواطنين، ولا سيما ذوي الدخل المحدود بالليرة اللبنانية. ويكفي لذلك الاشارة الى بيانات مصرف لبنان، التي تظهر الازدياد الهائل خصوصاً في حجم العملة الموضوعة في التداول والودائع تحت الطلب بالليرة اللبنانية بين تشرين الأول 2019 وأيار 2020.

 

والمعلوم إقتصادياً أنّ كل زيادة في السيولة المتداولة لا تتوافق مع نمو إقتصادي موازٍ ومن دون تغيير في سرعة تداول العملة، تُترجم بزيادة معدل الأسعار وضرب سعر صرف العملة الوطنية نسبة الى سائر العملات الأجنبية، ما يجعل الاستيراد أيضاً أغلى، فيتغذى أكثر مفعول التضخم...وهذا ما يحصل يومياً في لبنان ولو بنحو أكثر وضوحاً منذ تشرين الأول 2019 من دون معرفة الحدود الزمنية والكمية لهذه المؤشرات كما لانعكاساتها.

 

ومن المفيد الاشارة الى جملة العوامل المؤثرة في النمو الاقتصادي التي رصدها تقرير «بنك لبنان والمهجر»، والتي أشارت الى التراجع في الاستثمار وإنتاجية رأس المال منذ 2012-2013 بنحو ملحوظ مع تدهور مناخ الاستثمار. وفي هذا الصدد، من الضروري أن لا تركّز الإصلاحات على التحسين وسهولة ممارسة الأعمال التجارية فقط، ولكن يجب أولاً أن تتضمن أيضًا حوكمة أفضل للمؤسسات العامة بنحو حاسم، مما يستوجب بيئة سياسية مستقرة.

ـ ثانيًا، ثمة انعكاسات سلبية متراكمة لتوالي العجز في الموازنة العامة (بأكثر من 10% من الناتج المحلي الإجمالي في الآونة الأخيرة) نتيجة النفقات الجارية المفرطة (40% على الأجور والمعاشات وأكثر من 35% على الفوائد، أي خدمة الدين العام و11% لكهرباء لبنان) وهي بالطبع نفقات غير منتجة ولا مشجّعة للاستثمار.

ـ ثالثاً، لا بدّ من التنبّه الى دور الادخار الخاص في الاستثمار ،اذ تدخر الأُسر والشركات اللبنانية القليل نسبياً (ما يقرب من 7% من الناتج المحلي الإجمالي) خصوصاً مع توجّه الاقتصاد أكثر فأكثر نحو الاستهلاك المفرط، والذي يتخطى أحياناً كثيرة مردود الأُسر وتتمّ تغطيته ببطاقات الائتمان والقروض الشخصية...

- رابعاً، يبقى السبب الأهم من ذلك مرتبطاً بالموارد الخارجية المؤثرة بالمساهمات في النمو في الاقتصاد اللبناني، ما هو مثير للاهتمام، خصوصاً أنّه في حين تباطأت تدفقات رأس المال بنحو ملحوظ منذ عام 2012، فإنّ ما أبقى الوضع ثابتًا هو اللجوء الى الاحتياطيات الأجنبية في مصرف لبنان - وهو مورد خارجي آخر - مع تراكم عجز ميزان المدفوعات لأكثر من 18 مليار دولار منذ عام 2012... فيما احتياطيات المصرف المركزي من العملات الاجنبية تُستنزف يوماً بعد يوم.

 

ويبقى طبعاً على الدولة تنفيذ تدابير الإصلاح الأساسية الملحّة لتنشط النمو، بالاستناد الى ركائز الاقتصاد المحلية والموارد الكثيرة التي يتمتّع بها لبنان وتعطيه ميزات تفاضلية وقدرات تنافسية. كما من الضروري تقديم الحوافز لزيادة المدخرات (العامة والخاصة)، وتعزيز الصادرات، واستبدال الواردات، وبالتالي تجنّب الحاجة إلى مصادر تمويل خارجية أو تقليلها. وهذا مطلوب، خصوصاً في وقت أصبحت فيه أسواق رأس المال الدولية والإقليمية تزداد تنافسية... على أن يتركّز الجهد على تأمين معدّل نمو بالاستناد الى مصادر تمويل انواع إستثمارات ثابتة أو أكثر ثباتاً، خصوصاً في فترات الأزمات، كما بالتشديد على تحقيق معدّل نمو للاقتصاد أعلى من زيادة تنامي السيولة في الكتل النقدية، لتفادي انعكاسها مزيداً من التضخم وتضاؤل القدرة الشرائية والقدرة على إيفاء الديون...

 

 

ميزان المدفوعات يعكس دور لبنان الإقتصادي التاريخي: تصحيح الخلل لا يكون بتغيير الدور!

ميزان المدفوعات يعكس دور لبنان الإقتصادي التاريخي: تصحيح الخلل لا يكون بتغيير الدور!

https://www.aljoumhouria.com/ar/news/546626/%D9%85%D9%8A%D8%B2%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AF%D9%81%D9%88%D8%B9%D8%A7%D8%AA-%D9%8A%D8%B9%D9%83%D8%B3-%D8%AF%D9%88%D8%B1-%D9%84%D8%A8%D9%86%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%82%D8%AA%D8%B5%D8%A7%D8%AF%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE%D9%8A-%D8%AA%D8%B5%D8%AD%D9%8A%D8%AD-%D8%A7%D9%84%D8%AE%D9%84%D9%84-%D9%84%D8%A7-%D9%8A%D9%83%D9%88%D9%86-%D8%A8%D8%AA%D8%BA%D9%8A%D9%8A%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D8%B1?utm_source=editor&utm_medium=web&utm_campaign=listnews

أستاذة مُحاضرة في كلية العلوم الاقتصادية لجامعة القديس يوسف

العجز أو الفائض في ميزان المدفوعات 1999 - 2018
جريدة الجمهورية
Monday, 27-Jul-2020 06:44
في ظلّ نظام إقتصادي حرّ يكفله الدستور، شهد لبنان على مرّ السنين نتائج في ميزان المدفوعات، تعكس تماماً حقيقة دوره في المنطقة، من حيث اجتذاب الرساميل والتوظيفات والاستثمار العقاري والسياحة ومختلف الخدمات التجارية والسياحية، التي تمثّل أعلى مساهمة في ناتجه المحلي... ومجرد تبدّل رصيد ميزان المدفوعات من إيجابي (فائض) الى سلبي (عجز)، كان الاشارة الرئيسية الى بداية انفجار الأزمة الاقتصادية التي تصاعدت مؤشراتها منذ العام 2011 ليضع إنفجارها عام 2019 علامة إستفهام حول دور لبنان الاقتصادي نفسه، ويعيد طرح السؤال حول القطاعات الركيزة للبنان، والتي تؤمّن الحدّ الأدنى من أمنه الغذائي ومن مردوده المالي ومن مستقبله من جميع النواحي... ولكن، هل الخلل في ميزان المدفوعات يُعالج بإعادة النظر بمكوناته أم بسبل إعادتها الى مسارها الإيجابي؟ كيف يمكن قراءة مكوّنات ميزان المدفوعات؟

يتشكّل ميزان المدفوعات بشكل رئيسي من الميزان التجاري وميزان الرساميل. ومن المعروف تاريخياً أنّ كل فائض في ميزان المدفوعات يكون ناتجاً من فائض كبير في ميزان الرساميل، يتمكّن من التعويض بفائض أكبر من عجز الميزان التجاري، الذي لطالما عرف تاريخياً تراكم عجوزات في لبنان الذي يفوق استيراده أضعاف صادراته، نظراً لأسباب بنيوية استراتيجية وليس لعوائق ظرفية قابلة للتبدّل بسهولة.

 

علماً أنّ ميزان المدفوعات يعكس الفارق بين مجموع الاستيراد ومجموع التصدير، فيما ميزان الرساميل يعكس، كما يدلّ إسمه، الفرق بين حركة دخول وخروج الرساميل، والتي تتنوّع مصادرها بين أموال يرسلها لبنانيون من الخارج الى ذويهم ويوظّفها المغتربون والأجانب في لبنان على شكل ودائع مصرفية أو غيرها، واستقطاب للاستثمار الأجنبي والاغترابي في العقارات وسائر القطاعات، وأموال تدخل بفضل السياحة بشكل أساسي، وغالباً ما يُعوّل عليها وعلى تفوّقها على حركة خروج الرساميل في لبنان لتسيل فائضاً كبيراً في ميزان الرساميل، من شأنها التعويض عن عجز الميزان التجاري الناتج من كثافة الاستيراد من جهة وضعف التصدير من جهة أخرى. وتعزّز حركة الرساميل طبيعة النظام الاقتصادي اللبناني الحر الذي يسمح بحرّية الربح وتحويل الأموال وحركتها الى الخارج، والسرية المصرفية التي تميّز لبنان في المنطقة وتجتذب الودائع نحوه.

 

ومن أبرز العوامل التي أدّت الى هذا العجز المتزايد في الميزان التجاري، هو أنّ لبنان بلد مستهلك من الدرجة الاولى، وحاجة استهلاكه الى السلع المستوردة في تزايد مستمر، بفعل ارتفاع القوة الشرائية لدى السكان، وخصوصاً في الفترة التي كانت فيها عملته «مدعومة» عبر ربطها بالدولار ( 1507.5) منذ العام 1997، ولكون لبنان بلد سياحة وخدمات يزوره، الاجانب بأعداد كبيرة ويزيدون من استهلاك مختلف الماركات العالمية، ليمثّل الاستيراد أكثر من 80 % من الاستهلاك في لبنان.

 

كذلك يبرز ضعف قدرة لبنان على التصدير. إذ على الرغم من التوسع الكبير الذي حصل في السنوات الاخيرة في ميدان الانتاج الصناعي والزراعي، وبالرغم من الزيادة الملحوظة في حجم الصادرات اللبنانية الى الخارج ، فإنّ العناصر والامكانات الانتاجية المتوفرة في لبنان لا تزال ضعيفة لأسباب عدة، لاسيما نظراً للحاجة الى استيراد المواد الأولية للمنتوجات الصناعية ومختلف التجهيزات وصولاً الى التغليف. كما لارتفاع كلفة عناصر الانتاج من كلفة الرأسمال، أي معدّل الفائدة على كلفة الأجور، كذلك بسبب ضيق السوق اللبناني وصعوبة تحقيق ما يُعرَف في عالم الاقتصاد بـ«إقتصاد الكم» الذي يقلّص كلفة الوحدة المنتجة كلما زاد عدد الوحدات المنتجة. كما هناك مشكلة تأمين المياه الكافية لجميع المناطق وضعف شبكات الري، وطبعاً بشكل أساسي أزمة قطاع الكهرباء، وكل ما ينتج منها من عراقيل انتاجية وتكاليف مولدات وانعكاسات على سائر القطاعات، فضلاً عن ارتفاع كلفة الاتصالات وضعف الانترنت، كما ضعف كل البنى التحتية والخدمات في المناطق... فصادراتنا محصورة بأكثرها بالفاكهة والحمضيات التي تشكّل نسبة لافتة من مجموع صادرات لبنان، اضافة الى القليل من المنتجات الصناعية المحلية... وطبعاً طفرة المبادرات الزراعية الحديثة لإعادة الناس الى الأرض، وأهمية التنمية المستدامة والحرص على حسن الاستفادة من الموارد الطبيعية على أهميته، لا يمكن أن يشكّل رافعة للاقتصاد اللبناني بالمعنى الفعلي ولا عموداً فقرياً جديداً بديلاً من الدور التاريخي للاقتصاد اللبناني الخدماتي، السياحي، المالي، العلمي، والثقافي، نظراً لكل العوائق البنيوية في طبيعته، والتي لا تُعالج بمبادرات «تشجيعية»، «معنوية» و«وجدانية».. فالزراعة والصناعة تحتاجان مقومات وبنى تحتية ومواد أولية.. فيما اللبناني لا يزال يبحث عن شراء الشموع نتيجة التقنين المزدوج لكهرباء الدولة والمولّد الخاص، اذا توفّر المازوت لهذا الأخير! ومع انقطاع الكهرباء يغيب ضخ المياه في حال توفّرها، ومع غياب المازوت اضافة الى الكهرباء، تُطرح علامات استفهام حول استمرارية الانترنت؟ فأي زراعة وأي صناعة نشجّعهما؟!

 

وأكثر من ذلك، ومع التكاليف الخدماتية الاضافية، يُضاف استيراد المواد الأولية للصناعة والمبيدات وسواها للزراعة. فيصبح في نهاية المطاف سعر المنتج اللبناني يضاهي سعر المنتج المستورد في السوق..! فعلاً يتم الاعتماد على تعزيز القدرة التنافسية للمنتجات اللبنانية!؟؟ وكيف يمكنها في هذه الحال ان تشكّل رافعة للاقتصاد وتسمح مثلاً بإدخال دولارات تغطي أقله استيراد الدواء والتجهيزات الطبية، للتخفيف عن احتياطي المصرف المركزي المستنزف يومياً، قبل انبثاق فجر حلول جذرية؟؟

 

على خط موازٍ، وحتى قبل اتخاذ الإجراءات المكبّلة لحركة الرساميل، كان لبنان يعاني في السنوات الأخيرة، وتحديداً منذ العام 2011 ، من انقلاب وضع ميزان المدفوعات وتحوّله الى سلبي بشكل مستمر، مع تراجع ميزان الرساميل وعدم إمكانية التعويض عن العجز الهائل في الميزان التجاري، الذي تخطّى سنوياً 17 مليار دولار أميركي. وقد سجّل ميزان المدفوعات عجزاً في نهاية 2019 بقيمة 4351 مليون دولار، ليصبح العجز التراكمي منذ 2011 إلى اليوم ما قيمته 14515.9 مليون دولار (باستثناء عام 2016 الذي لم يسجّل عجزاً بسبب هندسات مصرف لبنان المالية التي استقطبت من خلالها المصارف اللبنانية المشاركة، رساميل من الخارج بالعملات الاجنبية لشراء اليوروبوند...).

 

إلّا أنّ انفجار الأزمة ومحدودية الاحتياطي بالعملات الأجنبية وأولويات استخدامه بين تلبية استحقاقات داهمة بالدولار الأميركي، قبل بتّ إعادة هيكلة الدين العام وتمويل استيراد مواد أساسية من قمح ودواء ولوازم طبية ومشتقات نفطية، في ظلّ تزايد الطلب على الدولار في السوق، جمّد إمكانية الصرف في القطاع المصرفي، الذي ابقى على السعر الرسمي 1507.5 دون امكانية التحويل في المصارف ولا التحويل الى الخارج، حتى تضاعف الطلب على الدولار لدى الصرافين، وأفلت السوق من امكانية ضبطه، فظهر سعر موازٍ للدولار أعلى من السعر الرسمي، فتهاوى معه الهدف الأساسي للمصرف المركزي المتمثّل بحماية القدرة الشرائية والاستقرار النقدي من تقلّبات سعر الصرف وموجات التضخم، لاسيما التضخّم المستورد الناتج من ارتفاع أسعار المنتجات المستوردة والتي أكثريتها المنتجات الاستهلاكية.

 

وفي ظلّ تزايد الطلب على الدولار في السوق، تمّ تجميد إمكانية التبادل في القطاع المصرفي، الذي حافظ على السعر الرسمي 1507.5 دون إمكانية التحويل في السوق إلى الخارج، حتى تضاعف الطلب على الدولار عند الصرافين وفلت السوق من إمكانية السيطرة عليه. مع العلم أنّ سعر الدولار الموازي ظهر في سوق الصرافة أعلى من السعر الرسمي، بحيث انهار الهدف الرئيسي للبنك المركزي لحماية القوة الشرائية والاستقرار النقدي من التقلبات في أسعار الصرف وموجات التضخم، وخصوصاً «التضخم المستورد» الناتج من ارتفاع أسعار المنتجات المستوردة، في ظل دولرة تخطت 76 % من مجموع الودائع.

 

ويُلاحظ، أنّه منذ عام 1993 بدأت فجوة النمو بين ودائع العملات الأجنبية والموجودات الخارجية للنظام المصرفي في الاتساع تدريجيًا..بمجرد أنّ الدولار الأميركي لا يُستخدم فقط للدفع مقابل الواردات، فإنّ مبلغ ودائع العملات الأجنبية لم يعد يساوي تمامًا كمية الموجودات بالعملة الأجنبية. هناك عاملان آخران يلعبان دوراً في توسيع الفجوة بين الودائع والأصول الأجنبية: التحويل المستمر من الليرة اللبنانية إلى الدولار ألاميركي ومنح المصارف تسليفات بالدولار من شأنها أن تزيد خلق النقد، فضلاً عن استخدام الدولار كأداة للدفع والتسوية للمعاملات المحلية.

 

ومع ذلك، طالما كان ميزان المدفوعات في مسار تصاعدي، ظلت فجوة النمو بين ودائع العملات الأجنبية والموجودات الخارجية للنظام المصرفي مضبوطة، وبالتالي انخفضت نسبة الودائع إلى الأصول الخارجية من 1.7 عام 1997 إلى 2.0 في نهاية 2011.

 

منذ ذلك الحين، مع بداية تداعيات الأزمة السورية على الاقتصاد اللبناني ومجمل التغيّرات في المشهد اللبناني واهتزاز الاستقرار، وظهور عجز في ميزان المدفوعات وزيادة غير طبيعية في ودائع العملات الأجنبية، التي ارتفعت نسبتها بشكل كبير لتصل إلى 3.5 في نهاية عام 2016 ؛ 4.2 نهاية عام 2017 ؛ 5.3 في نهاية 2018 ؛ وأخيرًا 7.3 في نهاية عام 2019. مع هذا المستوى من الاختلاف وفي سياق الأزمة ، يبدو جلياً أنّ الموجودات الخارجية للمصارف لم تعد كافية لتلبية طلبات العملاء لسحب الودائع، خصوصاً وأنّ مصرف لبنان لا يستطيع طباعة الدولار لتزويد المصارف بها والاستجابة لطلبات السوق.

 

وبذلك يتبيّن، أنّ ميزان المدفوعات له دلالات كبرى وأساسية في مسار الاقتصاد الوطني، وله عمقه البنيوي المتّصل بطبيعة وخصوصية الاقتصاد اللبناني، التي لا يمكن نسفها وإعادة تكوينها من جديد، خصوصاً في غياب الرؤيا والامكانيات لذلك، وبمجرّد «ردة فعل» لتشجيع الناس على الصمود بمبادرات فردية زراعية و صناعية مطلوبة، دون تأمين الحد الأدنى مما نادى وينادي به المزارعون والصناعيون منذ سنوات.

 

لكل إقتصاد هوية ومرتكزات ودور يُبنى على أساسها، وتميّزه عن غيره وتُعقد على أساسه الشراكات والاتفاقات التبادلية والتكاملية. فالاقتصاد لا يُبنى بـ»ضربيات» تكتيكية، بل برؤيا استراتيجة شاملة. وفي غياب الرؤيا الجديدة المتكاملة للنموذج الجديد، حان الوقت للوعي لضرورة العمل لإنقاذ النموذج الأساسي بإعادة الثقة لإعادة استقطاب الرساميل والاستثمارات والسياح، مع رسم خارطة واضحة للزراعة والصناعة تستند الى مطالب أرباب القطاع ولا تكون مُنزلة عليهم دون أي مقوّمات!