dimanche 26 juillet 2020

الجامعات المسؤولة إجتماعياً حاضنة لطلابها: علمياً، بحثياً وإقتصادياً

الجامعات المسؤولة إجتماعياً حاضنة لطلابها: علمياً، بحثياً وإقتصادياً
https://www.aljoumhouria.com/ar/news/545731/%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%A7%D9%85%D8%B9%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D9%88%D9%88%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%A7%D8%B9%D9%8A%D8%A7-%D8%AD%D8%A7%D8%B6%D9%86%D8%A9-%D9%84%D8%B7%D9%84%D8%A7%D8%A8%D9%87%D8%A7-%D8%B9%D9%84%D9%85%D9%8A%D8%A7-%D8%A8%D8%AD%D8%AB%D9%8A%D8%A7-%D9%88%D8%A7%D9%82%D8%AA%D8%B5%D8%A7%D8%AF%D9%8A%D8%A7?utm_source=editor&utm_medium=web&utm_campaign=listnews


Tuesday, 21-Jul-2020 06:20

وسط اشتداد الأزمة الاقتصادية، يحتدم البحث عن ترجمة التضامن الاجتماعي، لاسيما في المؤسسات التي تُعنى ببناء أجيال المستقبل، فيما الجامعات المسؤولة إجتماعياً، حاملة الرسالة مسبقاً من منطلق المسؤولية الاجتماعية، التي هي أبعد بكثير من «العمل الخيري» المتمثّل بتخفيض أقساط من هنا وحذف مصاريف زائدة من هناك.. المسؤولية الاجتماعية للجامعات لها مرتكزات ثلاثة: المستوى العلمي الرفيع، الذي يعطي تصنيفاً دولياً يسمح لحامله بالاعتراف بشهادته في كل بقاع الأرض. ومستوى بحثي، يجعل العلوم في خدمة الاستجابة لحاجات المجتمع، وإيجاد حلول لمشاكله وتسجيله بصمة عالمية من نتاجها. فضلاً عن الخدمة الاقتصادية للأفراد والمجتمع، من خلال المساهمة بتحقيق أهداف التنمية المستدامة. فماذا يعني بالعمق مفهوم المسؤولية الاجتماعية للجامعات اليوم، وكيف يُترجم، لا سيما في جامعات عريقة حملت همّ الشباب اللبناني في الحرب والسلم، بالبحبوحة وبالأزمات، وجعلت قيمها الانسانية البوصلة الأساسية لبناء وطن على أسس سليمة من العيش معاً، وجعلته منارة على قدر نور شعلة شبابه الواعد.

مع تنامي الأسئلة عن مفهوم المسؤولية الاجتماعية للمؤسسات وخصوصاً منها المؤسسات التربوية، وتحديداً الجامعات من بينها، لا سيّما مع أهداف الميثاق العالمي للأمم المتحدة، الذي تخطّى المسؤولية الاجتماعية للشركات لتشملَ وفقَ معايير أيزو 26000 مختلف المؤسسات العامة والخاصة والمنظمات غير الحكومية التي لا تبتغي أساس الربح، لا بدّ من تفنيد الركائز الثلاث للمسؤولية الاجتماعية للجامعات: التعليم، الأبحاث العلمية، وخدمة المجتمع، من خلال المساهمة في التنمية المستدامة و»الحدّ من أوجه عدم المساواة الاجتماعية».



المسؤولية الاجتماعية
في البداية، لا بدّ من توضيح الفَرق بين المسؤولية الاجتماعية و»العمل الخيري». اذ غالباً ما يختلط الاثنان في ذهن المجتمع، لا سيما في الأزمات، حيث الحاجة الملحة لترجمة المساعدة بدعم مالي سريع مباشر، بغض النظر عن السلّة الاجتماعية التنموية الشاملة ونوعية الخدمات المقدّمة. لا شك أنّ «العمل الخيري»، مثل المساعدة المالية وتأمين الِمنح الدراسية وتخفيض الأقساط لمن هو غير قادر على تسديدها كاملة، يندرج من ضمن استراتيجية المسؤولية الاجتماعية، ولكنه وحده لا يحقق المسؤولية الاجتماعية التنموية المطلوبة، ما لم يترافق مع سلة الركائز الضرورية. كما أنّ تحقيق الهدف العاشر للأمم المتحدة المتمثّل بتخفيف «أوجه عدم المساواة الاجتماعية» لا يكون بالدعم الشامل العشوائي للجميع بشكل متشابه، بل بأخذ في الاعتبار قدرة كل فرد وخلق روح التضامن، التي تجعل الأكثر قدرة يساهم في تعزيز وضع الأقل قدرة، بما يعزز المساواة ويحقق التنمية المستدامة والانسجام في النسيج الاجتماعي للوطن والعدالة، في الحصول على فرص التقدّم وتحسين أوضاع العائلات وفق جهود شبابها والتزامهم بالقيم الانسانية التي تتخطّى كل أنواع الفروقات الاجتماعية.





المستوى العلمي المعترف به دولياً
ويمثّل التعليم العالي إحدى الركائز الأساسية التي تقدّمها الجامعات لخدمة المجتمع، من خلال إعداد الكوادر والرأسمال البشري المتمكّن من المساهمة في تحقيق التنمية المستدامة على الصُعد العلمية والاقتصادية والاجتماعية. ويكون على الجامعات التأكّد من أنّ التوصيات العلمية التي تَصدر عن ندواتها ومؤتمراتها تَشمل النواحي البيئية والاجتماعية والأخلاقية لمختلف أعمالها. فالبحثُ العلمي ضروري لجعلِ المعلومات في خدمة المجتمع وتحسينِ نوعية الحياة. وبالتالي لا تكون المعلومات المنقولة نظرياً غريبة عن الواقع، فلا تكتفي الجامعات بنقلِ المعطيات الأكاديمية بغضّ النظر عن التمكّن من تطبيقها.
ويتبيّن، أنّ أبرز نواحي المسؤولية الاجتماعية للجامعات تتجلّى في إعداد مواطنين منتِجين ومسؤولين، وتشجيعِ الشراكة والمشاركة الفاعلة في صلبِ المجتمع المدني، وتنميةِ الكفاءات وتحقيق التوجيه المناسب نحوها. هذه الناحية من التعليم العالي تشكّل أحدَ أبرز مستلزمات التزام الجامعة تجاه المجتمع. من هنا نَفهم دور جامعات البلدان المتقدّمة في تشجيع طلابِها على التفكير في سُبل خدمة المجتمع على الصعيد العالمي، ولا سيّما التي في البلدان النامية، بما يفسِح في المجال أمام الحوار وتلاقي الثقافات المتنوّعة.
أولى مسؤوليات الجامعة هي تقديم تعليم رفيع المستوى معترف به عالمياً ومصنّف دولياً، بحيث تؤمّن الشهادات أوسع الفرص للمتخرجين على أوسع نطاق. فلا تكون صادرة عن «دكاكين» لا يُعرف إسمها ولا يُعترف بها في أي نقطة في الكون، فيكون الطالب هدر وقته وماله سدى، ويضطر الى إعادة التسجيل في أي إختصاص من جديد في مؤسسة معروفة لتأمين فرصة عمل مناسبة.
فالمستوى التعليمي بحدّ ذاته هو مسؤولية إجتماعية بما يحمل من هدف تكوين رأسمال بشري لدعم التنمية الاقتصادية والاجتماعية وتحسين مستوى العيش. وهنا أهمية الجامعات المسؤولة إجتماعياً في ضمان تكافؤ الفرص التعليمية للجميع، وخصوصاً الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة والفئات الأقل إمكانيات مادية ومعنوية، بسبب أي ظروف مالية أو عائلية وظرفية في البلاد.
ويُطلب من الجامعات ألّا يقتصر تدريبها وأبحاثها الأكاديمية على متطلبات واحتياجات سوق العمل، بل عليها تشجيع المناهج المتنوعة والمنهجية التي تحدّد الروابط بين العلوم العملية والعلوم الاجتماعية. في الوقت نفسه، تسعى الجامعات الى إدراج توصيات الميثاق العالمي المتصلة بالأثر البيئي والاقتصادي- الاجتماعي، فضلاً عن الأخلاقيات المهنية والتنموية لمختلف نشاطاتها.
كما أنّ الجامعات هي التي تَصنع المستقبل، وبالتالي تقع عليها مسؤولية جعلِ «شهاداتها مسؤولةً إجتماعياً» بحِرصها على: إعداد نظام الإدارة الجيّدة، واستخدام الطاقات المتجددة، حسن إدارة النفايات وإعادة تدويرها، وضع استراتيجيات التنمية المستدامة، العمل على تعزيز روح المبادرة، الابتكار والتكنولوجيا، تنمية مواهب الطلاب ليكونوا مواطنين منتِجين، حسنِ إدارة الموارد البشرية لتشجيع وتوجيه الجهود نحو العمل التطوعي، وتنميةِ المجتمع... كلّ ذلك يَدفعنا للقول، إنّ جامعات اليوم هي جامعات المجتمع، لأنّها تعيش تحدّيات وحاجات المجتمع، كما فرَصَ وطموحات المجتمع.
وثمّة نشاطات جامعية عديدة من شأنها المساهمة في المسؤولية الاجتماعية، مِثل: توجيه البحث العلمي نحو المجالات التي تلبّي حاجات المجتمع ومختلف العملاء الاقتصاديين، تنظيم مؤتمرات علمية، التبادل الأكاديمي، النوادي الثقافية، منتديات الحوار، المعارض والمنتديات الثقافية والوطنية، دورات الإعداد والتدريب والتعليم المستمر، ورَش العمل الاقتصادية- الاجتماعية والثقافية في مختلف البرامج، حلقات الحوار والنشاطات التي يتمرّس فيها الطالب على التواصل مع المجتمع (المؤسسات العامة، الشركات الخاصة، الهيئات المحلية في البلديات وجمعيات ومنظمات غير الحكومية...) ليتبلوَر له كيفية استخدام ما يتعلّمه في خدمة المجتمع الذي ينمو فيه.





البحث العلمي والتطبيق العملي
البحث العلمي ضروري لوضع المعرفة في خدمة المجتمع وتحسين نوعية حياة السكان. وبالتالي، لا يمكن إجراء البحث بشكل مستقل عن احتياجات المجتمع والحاجة إلى استخلاص الاستنتاجات اللازمة التي تسمح باستخدامه لحلّ المشكلات (القانونية والاقتصادية والطبية والحضرية والبيئية والتعليمية والثقافية. .) من أجل تحسين رفاهية ومستوى معيشة الناس.
إلّا أنّ هذه الإنجازات تتطلّب وضعَ ورقةِ عملٍ استراتيجية لتحقيق المسؤولية الاجتماعية للجامعات، وتشكيلَ هيئةٍ تُراقب المسؤولية الاجتماعية، وتحديدَ الأفرقاء المعنيين بمختلف البرامج وتوقّعاتهم من مختلف برامج المسؤولية الاجتماعية المطروحة، وإعدادَ الدراسات والأبحاث المناسبة لها.
وبذلك تكون الجامعة مساهمةً في بناء المواطنية المسؤولة اجتماعياً، من خلال إدراج حاجات المجتمع ومفاهيم الحياة العامة في صلب الحياة الجامعية بالنشاطات الصفّية وغير الصفّية. كما مِن خلال تمكينِ المتخرّجين من التعامل مع مختلف تقنيات التواصل والبحث والحوار وتبادل الأفكار وترجمتها لإنجازات في خدمة المجتمع بكافّة مكوّناته وفئاته العمرية والاجتماعية والثقافية...
وهكذا يكون مشروع المسؤولية الاجتماعية للجامعات مساهِماً في تحقيق التنمية والترويج للنواحي الاجتماعية للتعليم العالي. وهكذا تكون المسؤولية الاجتماعية للجامعات متّسمةً بروح المواطنية والتنمية المستدامة، ومنطبعةً بكون التربية خدمةً عامةً والتزاماً تجاه المجتمع الذي تنشَط فيه، ناشرةً لمختلف السياسات والممارسات التي من شأنها تحقيق الازدهار والتنمية وفرَصِ العمل والتقدّم وتحسين مستوى العيش وخلق واحةً لفتح آفاق المنافسة نحو تقديم الأفضل وجعلِ البحث العِلمي في خدمة التطبيق العَملي.
بالنتيجة، لا تكون المسؤولية الاجتماعية للجامعات فصلاً في درس أو مشروعاً في جملة نشاطات أو قسماً من هيكلية المؤسسات، إنّما قيمة راسخة في استراتيجيتها ينبغي أن تُترجم في مختلف أوجه رسالتها.



المواطنية وخدمة المجتمع
تعتمد مسؤولية الجامعة تجاه المجتمع على فكرة أنّ دور الجامعة لا يقتصر على توفير التعليم المناسب للأشخاص الأكفاء في مختلف مجالات النشاط، ولكن تدريب المواطنين المسؤولين القادرين على الاندماج بسهولة في المجتمع، والتمرّس على الديمقراطية والتعاون مع الآخر، لبناء وطن أفضل للجميع. وخدمة المجتمع، هي واحدة من الركائز الرئيسية لرسالة ورؤية العديد من الجامعات المسؤولة إجتماعياً في جميع أنحاء العالم، ومنها طبعاً في لبنان، وفي طليعتها جامعة القديس يوسف، التي تميّزت في أدائها المسؤول إجتماعياً بين مختلف الجامعات الفرنكوفونية في الشرق الأوسط وفي اتحاد الجامعات الكاثوليكية وفي الميثاق العالمي للتنمية المستدامة للأمم المتحدة.
تبقى الإشارة، الى إنّ المسؤولية الاجتماعية للجامعات هي الفسحة الأولى للتمرّس على المسؤولية الاجتماعية في مختلف المؤسسات وعلى نطاق الوطن بشكل عام. أما الرهان الأساس للتقدّم في هذا المجال، فيتطلّب الالتزام بالمعايير المعتمَدة لقياس المسؤولية الاجتماعية للجامعات الدولية، والتي تشكّل نموذجاً تحتذي به كبرى الجامعات في لبنان، لتؤسس شبكة أمان للوطن ولأجياله القادمة، في القيم والمبادئ التي تحفظ كرامة الانسان وحقة بالمستوى العالمي اللائق، لفرص عمل لاحقة تؤمّن التنمية المستدامة والتقدّم الدائم.


ثلاثية الضغوط على المصرف المركزي: صدقية السياسة النقدية على محك تمويل المالية

ثلاثية الضغوط على المصرف المركزي: صدقية السياسة النقدية على محك تمويل المالية
https://www.aljoumhouria.com/ar/news/544922/%D8%AB%D9%84%D8%A7%D8%AB%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B6%D8%BA%D9%88%D8%B7-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B5%D8%B1%D9%81-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B1%D9%83%D8%B2%D9%8A-%D8%B5%D8%AF%D9%82%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%82%D8%AF%D9%8A%D8%A9-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D9%85%D8%AD%D9%83-%D8%AA%D9%85%D9%88%D9%8A%D9%84-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%A7%D9%84%D9%8A%D8%A9?utm_source=editor&utm_medium=web&utm_campaign=listnews
Wednesday, 15-Jul-2020
طالما أنّ علم الإقتصاد يربط مفهوم الصدقية للمصرف المركزي بمدى إستقلالية سياسته النقدية عن السياسة المالية للدولة، فمن المنطق أن يكون ضرب الصدقية واهتزاز الثقة متصلين تحديداً بمدى الترابط بين السياستين، أي بمدى اعتماد الدولة على تأمين تمويلها من المصرف المركزي، خصوصاً في ظلّ استمرار عجزها المالي في غياب الاصلاحات لضبطه، كما ضعف الأفق في تحسّن الإيرادات الضريبية وضعف القدرة على استقطاب المكتتبين بسنداتها الجديدة. كيف تدرّج وضع صدقية المصرف المركزي في لبنان، وسط ثلاثية الضغوط بين الدين العام الناتج من تراكم العجز المالي والدولرة، و22 سنة من ربط سعر صرف العملة الوطنية بالدولار، المستعمل بالتوازي معها في السوق المحلي؟ إشكالية الخلل تدرّجت منذ الأزمة النقدية في الثمانينات مروراً بمرحلة التثبيت وصولاً الى تزايد الأعباء حتى الانفجار..ولا مخرج من أزمة قبل تحديد مكامن الخلل..
من المعروف أنّ ذكرى الفترة التضخمية وانهيار سعر الصرف في الثمانينات شكّلا أساس خيارات مصرف لبنان، من حيث سياسة الاستقرار النقدي وتثبيت سعر الصرف، التي انتُهجت بين عامي 1997 و 2019. وقد أظهرت مختلف الدراسات، أنّ المكمن الرئيسي لأزمة الثمانينات كان على وجه التحديد التمويل النقدي لعجز الموازنة، من خلال التسليفات المباشرة من مصرف لبنان إلى الخزانة. في المرحلة الأولى، كانت فترة التمويل عن طريق التسليفات المباشرة من مصرف لبنان إلى الخزانة، أي طبع النقد، وكان النهج النظري، الذي جعل من الممكن تفسير هذه الأزمة هو «التضخم المفرط والمفاجئ» الناتج من التمويل النقدي لعجز ميزانية الدولة تحت - ضغوطات الحكومة المعروفة بمشكلة «التضارب الزمني» التي قدّمها كيدلاند وبريسكوت [1977] وبارو وجوردون [1983].

مع تطور الدين العام، أصبحت السياسة الأنسب للسلطة النقدية اللبنانية مرتكزة على الأسلوب الكلاسيكي الجديد Sargent and Wallace [1981]. وقد أبرز هؤلاء المؤلفون، أنّه حتى لو كان البنك المركزي يسيطر بصرامة على معدل نمو الكتلة النقدية على المدى القصير، فإنّ المديونية المتزايدة للدولة يمكن أن تؤثر على توقعات تحقيق الدخل، وبالتالي التوقعات التضخمية.

فكان اختيار العملاء الاقتصاديين هو «استيراد الصدقية النقدية» باللجوء إلى الدولرة. وكان اختيار مصرف لبنان هو السعي لتحقيق الاستقرار النقدي وفقًا للنهج التقليدي النقدي من خلال التحكّم بالتضخم بالارتكاز على سياسة نقدية مقيّدة، قبل التحرك تدريجيًا بشكل موازٍ لربط سعر الصرف. في ظلّ معدلات دولرة آخذة بالارتفاع، بحثاً عن ضمان القدرة الشرائية للمدخرات وتسهيلاً للتسعير والتداول للمنتجات.

إنطلاقاً من هنا، ومنذ فترة التضخم والانخفاض وتحفيز الدولرة في الثمانينات، اعتُمدت سياسات استقرار مختلفة، وتطورت نتائج كل منها في فترات مختلفة أيضاً. وقد أدّى التضخم الناشئ عن التمويل النقدي لعجز الموازنة إلى قيام مصرف لبنان بتطبيق سياسة استقرار قائمة على ضبط السيولة المتداولة في السوق بالعملة الوطنية، نظراً لعدم تمكّنه من التحكّم بالسيولة بالعملات الأجنبية، الأمر الذي أثبت ضعف فعاليته، لأنّ السيولة التي كانت متوفرة ومتداولة بالعملات الأجنبية كانت حينها الأكثر سيطرة. كان مصرف لبنان في وضع متناقض، إذ عليه من جهة أن يحدّ من السيولة المتداولة بالليرة اللبنانية، في الوقت الذي كان هو نفسه من ساهم في نموّها، من خلال تمويله النقدي لعجز الموازنة. منذ الثمانينات، حاول مصرف لبنان الحدّ من تسليفاته المباشرة للخزينة العامة، والحدّ أيضاً من تحويل مكاسبه من إعادة تقييم احتياطيات من الذهب إلى الخزينة العامة، كونه لم يقم لا بعملية بيع ولا إدارة لاحتياطي الذهب، حتى يعتبر أنّه حقق منه أرباحاً.

منذ بداية التسعينات، استبدل مصرف لبنان والحكومة التسليفات المباشرة بإصدار سندات خزينة، وطبّقوا سياسة أسعار الفائدة المرتفعة لتشجيع الاكتتابات فيها. وكانت هذه السياسة فعاّلة في الحدّ من التضخم، حتى عام 1997 عندما بدأنا في اكتشاف تأثير «الإزاحة» لهذا التقييد النقدي الزائد. منذ عام 1993، تبنّى مصرف لبنان سياسة التقدير التدريجي لليرة اللبنانية، حتى التثبيت الاسمي لسعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي عند 1507.5 كمعدل متوسط من عام 1997. وأظهرت هذه السياسة فعاليتها في ضبط استقرار سعر الصرف، خلال فترات الأزمات. ورغم ذلك، فقد تبيّن، لا سيما مع انفجار الأزمة منذ أشهر وبدء احتساب خسائر المصرف المركزي، كم كان هذا الخيار مكلفاً من حيث تدخّل مصرف لبنان المستمر في سوق الصرف، بالاعتماد على احتياطيات من النقد الأجنبي وكذلك من حيث أسعار الفائدة المرتفعة.

إنّ المراجع النظرية لدراسة سياسات التثبيت النقدي هي تلك التي لدى Guillaumont-Jeanneney [1994] التي تميّز بين سياسات التثبيت القائمة على المال، وسياسات التثبيت القائمة على سعر الصرف، في حالتين للاقتصاد التقليدي، لعملة واحدة والاقتصاد الدولاري. وتتيح هذه الدراسات فهم النتائج وفقًا لما إذا كانت السياسة النقدية للبنك المركزي موثوقة أم لا. وفي حالة لبنان، تظلّ فعالية سياسات التثبيت النقدي محدودة بسبب قيود مختلفة: بالتحديد الدين العام، وربط سعر الصرف والدولرة.

فالدين العام يمثّل تقييداً للسياسة النقدية ويؤثر على صدقية المصرف المركزي في أعين العملاء الاقتصاديين (الذين يتوقّعون عن حق لجوء الدولة اليه لتمويل الدين العام)، كذلك يشكّل معدّل الدولرة المرتفع تقييداً أيضاً للمصرف المركزي وسياسة تثبيت سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي، والتي كانت مكلفة للاقتصاد، دون ضمان الاستقرار الفعلي، والبرهان استمرار معدّل الدولرة بحدود 76% بعد 22 عاماً من تثبيت سعر الصرف، فيما كان يمكن الانتقال التدريجي إلى نظام أكثر مرونة ومتماه مع مؤشرات ميزان المدفوعات، وطبعاً بأقل كلفة من العجز الفجائي عن التدخّل وترك الساحة للسوق الموازي.

من المعلوم أنّ الدين العام قد ازداد بـ «تأثير كرة الثلج» منذ بداية فترة إعادة الإعمار في التسعينات. إلّا أنّ الدين العام شهد تغيرًا جذريًا في هيكليته في عام 2002. وحتى العام 2002 ، كانت الحصة أصل الدين العام بالليرة اللبنانية. منذ عام 2002 ، وبعد مؤتمر باريس -2 بالتحديد للدعم الدولي للبنان ، بدأت تكبر حصة الدين العام المقومة بالعملات الأجنبية، ولا سيما بالدولار الأميركي، بنسبة 50% من إجمالي الدين العام.

كان الهدف من هذا التغيير في هيكلية الدين العام هو تخفيض خدمة الدين العام ونمو الدين العام (حيث أنّ أسعار الفائدة على سندات الخزينة بالدولار الأميركي أقل طبعاً من معدلات الفائدة على سندات الخزينة بالليرة اللبنانية)، وتشجع أصحاب رأس المال المقيم وغير المقيم على الاكتتاب فيها.

لعب هذا التغيير في هيكلة الدين العام دورًا حاسمًا في الحفاظ على سياسة سعر الصرف، وزاد من تعقيد قيود الدولرة. وصندوق النقد الدولي، الذي دعا سابقاً إلى تخفيض قيمة العملة، عاد وأيّد سياسة ربط سعر الصرف، بعد أن تبيّن له أنّ أي تخفيض في قيمة العملة سيؤدي إلى زيادة الدين بالعملات الأجنبية، وسيؤثر على ملاءة الدولة وسيخاطر بإحداث أزمة خطيرة في النظام المصرفي كالتي نعيشها اليوم..

إنّ دولرة نصف الدين العام، بالإضافة إلى ضعف القدرة التنافسية للمنتجات اللبنانية (بسبب ارتفاع تكاليف الإنتاج ومكوّناتها المستوردة بمعظمها) يجعل أي تخفيض في قيمة العملة غير فعّال، لأنّ الاقتصاد لن يكون قادرًا على الاستفادة من ذلك، إن لجهة تحرير نفسه من دينه العام أو لجهة زيادة صادراته.

أما أبرز المقترحات التي طُرحت لضمان الاستقرار النقدي في لبنان، فكانت ترتكز على التوسع التدريجي لهامش سعر الصرف، وفقًا لنهج ويليامسون للاقتصادات النامية، مقارنة بالحالة في لبنان، مما يسمح بالانتقال التدريجي من نظام التثبيت الجامد لسعر الصرف إلى نظام أكثر مرونة، يسمح بتحديد أولويات هدف التضخم وفقًا لتحليلات غولدشتاين. وفي الوقت نفسه، تعلّق هذه الدروس أهمية كبيرة على تنفيذ الإصلاحات المالية الموصى بها، للحدّ من وزن الدين العام، الذي يتحمّله البنك المركزي والمصارف التجارية، أي الجهاز المصرفي ككل، وبالتالي تجنّب التوقعات التضخمية المرتبطة بتوقعات تسييل الدين العام.

أما اليوم، فلم يعد بمقدور السياسة النقدية الاستمرار في دعم إخفاقات السياسة المالية، وحان وقت الأخذ في الاعتبار مخاطر استمرار تمويل القطاع العام وتدابير «القدرة على تحمّل ديون الدولة»... أما الاستمرارا بالاعتماد على المصرف المركزي وتكرار النهج ذاته دون أي إصلاحات في المالية العامة، فما هو الّا إعادة للسيناريو المؤسّس للأزمة، وطبعاً بشكل أشدّ أذى للاقتصاد الوطني...

فهل نأخذ العبرة لتحويل الأزمة الى فرصة باتجاه أكثر إنسجاماً بين السياستين النقدية والمالية، على أسس سليمة لكل منها، تعيد الثقة للحفاظ على ما تبقّى من رساميل في البلاد وتخفّض الدولرة عن قناعة وليس بشكل قهري في الاقتصاد اللبناني؟

بعد تفوّق تضخم الـ 2020 على ذروة الـ1987 تتعدّد الأسباب... وتختلف النتائج

بعد تفوّق تضخم الـ 2020 على ذروة الـ1987 تتعدّد الأسباب... وتختلف النتائج
https://www.aljoumhouria.com/ar/news/544045/%D8%A8%D8%B9%D8%AF-%D8%AA%D9%81%D9%88%D9%82-%D8%AA%D8%B6%D8%AE%D9%85-%D8%A7%D9%84%D9%80-2020-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%B0%D8%B1%D9%88%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%801987-%D8%AA%D8%AA%D8%B9%D8%AF%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B3%D8%A8%D8%A7%D8%A8-%D9%88%D8%AA%D8%AE%D8%AA%D9%84%D9%81-%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%AA%D8%A7%D9%8A%D8%AC?utm_source=editor&utm_medium=web&utm_campaign=listnews

Thursday, 09-Jul-2020


يتميّز التضخم بزيادة مستمرة في متوسط أسعار السلع والخدمات، بغض النظر عن الاختلافات القطاعية. وهو على الرغم من انعكاساته السلبية على المستهلكين المحليين ذوي الدخل الثابت بالعملة الوطنية، إلّا أنّ ارتباطه بتدهور سعر الصرف يجعله يحمل أحياناً تأثيرات مخالفة بالنسبة للمصدّرين أو المغتربين أو المستثمرين والسياح الأجانب والمغتربين القادمين الى البلاد.. الأمر الذي يستدعي قراءة متعدّدة الأوجه لأسبابه ونتائجه لمختلف الأفرقاء المعنيين، وفق خصوصية البلاد موضع الأبحاث، وأوضاع كل من هو على علاقة بها. ولكن قبل النظر في عواقب التضخم في لبنان، دعونا ننظر أولاً في أسبابه، بعد أن تخطّى عام 2020 حدود 510 في المئة تفوقاً بذلك على تجربة العام 1987 التي اتسمت بذروة معدل 487 في المئة ، فيما لم يُعرف بعد الاتجاه المستقبلي للأسعار ...
في لبنان تعتمد إدارة الإحصاء المركزي طريقة علمية واضحة ودقيقة لاحتساب مؤشر الأسعار، ترتكز وفق منشوراتها، على تصور مجموعة محدّدة من السلع والخدمات النموذجية التي تستهلكها الأُسر المعيشية، تُسمّى «سلّة الاستهلاك»، التي يتم شراؤها في كل شهر، ومن شهر الى شهر يختلف المبلغ المدفوع لشراء هذه السلة، بحسب تغيّر اسعار الأصناف التي تضمّها، ومهمة الرقم القياسي لأسعار الاستهلاك، هو قياس التغيّر النسبي في المبلغ المدفوع لشراء هذه السلة.

علماً انّ اصدار الرقم القياسي لاسعار الاستهلاك هو شهري. وبالطبع لا يمكن متابعة اسعار كل السلع الموجودة على الاراضي اللبنانية والمستهلكة من قبل الأُسر المعيشية. لذلك، تتابع ادارة الاحصاء المركزي اسعار عينة من السلع والخدمات الاكثر استهلاكاً من الأُسر المعيشية اللبنانية، وهي حوالى 11500 سلعة وخدمة. وتشمل سلّة الاستهلاك عدداً من الاصناف، يتسمّ بتمثيله للاستهلاك الفعلي للأُسر المعيشية بفئاتها الاقتصادية والاجتماعية، وتوزّعها على مختلف المناطق اللبنانية.

ويتم ّتصنيف الاستهلاك الفردي، وفق الهدف من الاستهلاك، بين المواد الغذائية والمشروبات غير الروحية، المشروبات الروحية والتبغ والتنباك، الالبسة والأحذية، المسكن والماء والكهرباء والمحروقات، الاثاث والتجهيزات المنزلية والصيانة المستمرة للمنزل، الصحة، الاستجمام والتسلية والثقافة، التعليم، المطاعم والفنادق، سلع وخدمات متفرقة...

وتتعدّد الأسباب والخلفيات الاقتصادية للتضخّم الحاد، فيما تبقى النتيجة واحدة، وهي فقدان القدرة الشرائية لذوي الدخل المحدود بالعملة الوطنية، أي تقلّص مكونات السلّة الاستهلاكية التي يسمح بشرائها المبلغ نفسه..

ومن أبرز أسباب التضخّم، هو ما يُعرف بالتضخم النقدي، الذي يتحدّث عن زيادة العرض النقدي من قِبل البنك المركزي، الذي يُصدر الأوراق النقدية. وغالباً ما يُعتبر هذا النوع من التضخم مرتبطًا بسوء الإدارة من قِبل الدولة، والتي غالبًا ما تستخدم تقنية «المطبعة» لتقليل مقدار الدين العام القابل للسداد.

وقد شهد لبنان في الثمانينات تجربة التضخم المفرط وتدهور قيمة العملة الوطنية حيث سار تطور التضخم طوال سنوات الحرب في لبنان جنباً إلى جنب مع تطور الكتلة النقدية خاصة في بداية الثمانينيات مع زيادة عجز الميزانية السنوية ثم مع انهيار سعر صرف العملة الوطنية منذ عام 1984.

ولاحظ العديد من خبراء الاقتصاد، ارتباط هذه المتغيّرات وتطور التضخم، مع التركيز على أنّ السبب الرئيسي للتضخم في لبنان، ولا سيما خلال سنوات الحرب، كان ذا طابع نقدي، دون استنتاج أنّه السبب الوحيد للتضخم في لبنان. ونلاحظ، على سبيل المثال، أنّه قبل ظهور عجز الموازنة في نهاية السبعينيات وتطوره في سنوات الحرب في لبنان، ارتفع متوسط معدل التضخم السنوي بنسبة 20%، ثم تظهّر تضخم مزمن طوال سنوات الحرب وحتى بداية سنوات ما بعد الحرب (حتى عام 1992) خلال فترة التضخم المرتفع في عام 1987 (معدل التضخم 487%).

كما من الضروري التمييز بين المنطق التقليدي، الذي يفترض وجود عملة واحدة فقط، يتمّ تداولها في كل اقتصاد، والمنطق الذي يأخذ في الاعتبار وجود دولرة في الاقتصاد المعني، وبالتالي وجود عملة أجنبية مستخدمة الى جانب العملة الوطنية، وتعرّض السوق لما يُعرف بـ «التضخّم المستورد» inflation importee في حال تدهور قيمة العملة الوطنية ازاء العملة الاجنبية، وبالتالي الاضطرار الى تثبيت العملة الوطنية ازاءها، في ظلّ توازي استخدام العملتين..

أيضاً يمكن أن يتغذّى ارتفاع الأسعار من خلال تكاليف التضخّم المستورد، حيث يعود التضخم إلى ارتفاع أسعار المواد الخام المستوردة، وهو ما ينعكس في سعر بيع المنتج النهائي. فلنأخذ على سبيل المثال إطارًا مصنوعًا من البترول. إذا ارتفع سعر النفط، فإنّ الشركة المصنّعة للإطارات سترتفع لديها تكاليف التصنيع وستضطر إلى تمرير هذه الزيادة عند بيع إطاراتها، ويمكن للشركة بالتأكيد استيعاب بعض الزيادة في أسعار المواد الخام، ولكن إذا كانت الزيادة أيضًا كبيرة، فمن الصعب للغاية الحفاظ على أسعار البيع.

من هنا نفهم مسار التضخّم المرتبط اليوم بموجة تدهور سعر صرف الليرة اللبنانية إزاء الدولار الأميركي، خصوصاً في بلد يعتمد بـ 80% من إستهلاكه على الاستيراد، أن يشهد اليوم قمة التضخم التي تفوق 510% وفق ما نشره البروفسور «ستيف هانك»، على صفحته، ليفوق بذلك معدل الـ487% عام 1987 دون معرفة منحى تطوّره، وما إذا كان قد بلغ ذروته أم بعد. (راجع الرسم البياني)

كما أنّ التضخم يمكن أن ينتج من فائض الطلب بالنسبة للعرض، فيرتبط التضخّم بعدم التوازن بين العرض والطلب لمنتج معين. إذ كلما كان الطلب أكبر من العرض ترتفع الأسعار تلقائيًا حتى تصل إلى نقطة التعادل. وإذا كان العرض غير قادر على تلبية الطلب، فإنّ ندرة المنتج تعني استمرار الأسعار في الارتفاع، مما يخلق التضخم.

كما يمكن أن يأتي التضخم عن طريق ربط سعر منتجات معينة بأسعار المنتجات الوسيطة المستخدمة في تصنيعها. ونأخذ مثالنا للإطارات مرة أخرى لتسهيل المقارنة. إذا كان سعر بيع الإطارات سيرتفع، من المرجح أيضًا أن يرتفع سعر بيع السيارة الجديدة، نظرًا لأنّ الإطارات تشكّل جزءًا لا يتجزأ من تكاليف السيارة.

وغالباً ما يتصل التضخم بانعدام الثقة بالعملة الوطنية، فالأموال التي نستخدمها كل يوم لا تقلّ قيمة عن الثقة التي نضعها فيها. وفي الأسواق المالية، يؤدي انعدام الثقة في العملة إلى انخفاض سعر صرفها.

كذلك يمكن أن ينتج التضخم من السياسة النقدية. إذ يؤدي تخفيض البنك المركزي لأسعار الفائدة الرئيسية إلى زيادة التضخم تلقائيًا.

ومن أبرز عواقب التضخم، ما يستتبعها لاحقاً من مطالبة بزيادة الأجور، لاستعادة البعض من مستوى المعيشة، يتمّ ربط الأجور بمستويات الأسعار. لذا، إذا كان التضخم 3%، فسوف ترتفع الأجور مع الوقت أيضًا نظريًا بنسبة 3% لإعادة التوازن الى الإقتصاد.

والواقع، أنّ حساب مؤشر الأسعار (الذي يتمّ ربط الأجور به) غالبًا ما يكون مشوهًا. فعند حساب هذا المؤشر، يتمّ التركيز على المواد الاستهلاكية التي تُعتبر ضرورية، أكثر من غيرها من الإنفاق. على سبيل المثال، يمثل الإيجار، الذي يُعدّ أحد نفقات الأسرة الرئيسية، جزءًا صغيرًا من هذا المؤشر. خلافاً لذلك، تلعب التغيّرات في أسعار المواد الغذائية دورًا رئيسيًا. لذا هناك فرق بين التضخم الحقيقي والمتوقّع. وإذا ارتفعت الأجور بشكل أسرع من الأسعار، فإنّ الأُسر ستشهد تحسناً في قدرتها الشرائية. وبالمقابل، إذا ارتفعت الأجور بسرعة أقل، تتأثر الأُسر بفقدان جزء كبير من القوة الشرائية.

أما بالنسبة الى الديون، فتأثير تدهور العملة عليها يختلف بين تخفيف عبء الديون عن المدينين، أي من سبق واستدانوا بالعملة الوطنية، التي تفقد قيمتها، وزيادة القدرة الشرائية بالنسبة للسياح والمستثمرين الأجانب والمغتربين، الذين يتقاضون مداخيل بالعملات الأجنبية. وعلى العكس، تتدهور أوضاع من استدانوا بالعملة الأجنبية، وخصوصاً إن كان مردودهم بالعملة الوطنية، فيتحمّلون كلفة فرق العملة، فيما لا يتأثّر من استدانوا بالعملة الأجنبية إن كان مدخولهم بهذه العملة نفسها أو بعملة أجنبية أخرى مستقرة. ومن ناحية أخرى، يخسر الدائنون، الذين من المقرّر أن يتمّ ردّ المبالغ المستحقة لهم بعملة لا قيمة لها عمّا كانت عليه، عند تنفيذ معاملة القرض، بغض النظر عن أساس قيمة القرض. كذلك تتأثر الأُسر التي لديها قروض بأسعار فائدة متغيّرة برفع سعر الفائدة المركزي، الذي يؤثر على مجمل الفوائد الدائنة والمدينة.

يبقى القول، إنّ ارتفاع الأسعار يغذي نفسه، إذ هو يتطلّب ضخ المزيد من السيولة، لتعويض تراجع القدرة الشرائية، والطلب على المزيد من المال، وخصوصاً لتمويل القطاع العام ورواتبه ومصاريفه، إذا كان التضخّم يتزامن مع تراجع إيرادات الدولة، أو كانت بالأساس في حالة عجز مالي، أو أنّ ماليتها أساس أسباب تدهور الأوضاع النقدية، كما هي الحال في لبنان. الإشكالية الأساسية ليست في معدّل التضخّم نفسه، ولا حتى بمختلف إنعكاساته، إنما التحدّي في تحقيق معدّل نمو يفوق معدّل التضخّم، حتى لا يصبح معدّل الفائدة الفعلي تحت الصفر!.. فأين نحن من ذلك في ظل توقّع معدّل نمو تحت الصفر؟!

أي خصوصية للدولرة في لبنان؟ بين الدخول الحرّ والخروج الإجباري...

أي خصوصية للدولرة في لبنان؟ بين الدخول الحرّ والخروج الإجباري...
https://www.aljoumhouria.com/ar/news/542535/%D8%A7%D9%8A-%D8%AE%D8%B5%D9%88%D8%B5%D9%8A%D8%A9-%D9%84%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84%D8%B1%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D9%84%D8%A8%D9%86%D8%A7%D9%86-%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D8%AE%D9%88%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AE%D8%B1%D9%88%D8%AC-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AC%D8%A8%D8%A7%D8%B1%D9%8A?utm_source=editor&utm_medium=web&utm_campaign=listnews

Tuesday, 30-Jun-2020 06:30

في الثمانينات من القرن الماضي، اختار القطاع الخاص اللبناني الدولرة بحرّية، حفاظاً على قيمة المدخرات والقدرة الشرائية، بعد افتقاد الليرة وظائف النقد الأساسية مع التضخّم وتدهور سعر الصرف... ومنذ العام 2019 يُفرض على القطاع الخاص «الخروج من الدولرة»، أي العملية المعاكسة. ولكن، في ظلّ ظروف مشابهة تماماً للثمانينات، بين التضخّم وتدهور سعر الصرف، لا بل مع الدين العام المدولر بجزء كبير منه، بعد عجز الدولة عن التسديد وانغماس الجهاز المصرفي في تمويل عجزه عن إعادة الودائع المدولرة لأصحابها... بين التجربتين، ما هي الأنظمة القياسية للدولرة؟ أي منها ينطبق على لبنان؟ وما هي خصوصية الدخول في الدولرة ومحاولة الخروج منها، وسط مختلف التحدّيات المرافقة؟

إقتصادياً، يتمّ تصنيف الدولرة على أساس التمييز المزدوج بين «الدولرة الكاملة» و»الدولرة الجزئية» من جهة، و»الدولرة الرسمية بفعل القانون» و»الدولرة غير القانونية الناتجة من خيار حرّ للقطاع الخاص» من جهة أخرى.

الدولرة الجزئية تتميّز بظاهرة «التعدّدية النقدية»، وهي تتعلّق بالاقتصادات، حيث يتمّ تداول العملات الأجنبية جنبًا إلى جنب مع العملة المحلية. وفي هذه الحال يبقى للبلاد مصرف مركزي يطبع العملة الوطنية، فيما السوق يستخدم العملتين في آن معاً، كما هي الحال في لبنان، منذ أن إختار القطاع الخاص اللبناني في الثمانينات اللجوء الى دولرة جزئية ولو بنسبة مرتفعة...

أما خيار اللجوء الى الدولرة، فيكون عادة نتيجة تضخم هائل وانهيار لسعر صرف العملة الوطنية، يُسقطان من العملة الوطنية وظائفها الثلاث الأساسية:

أولاً، كوحدة حساب تسمح بتقييم كل منتج وتسعيره. ثانياً، كوسيط تجاري يسمح بتسديد الفواتير الناتجة من كل عملية تجارية. وثالثاً، كحافظة لقيمة النقد وقدرته الشرائية، ما يسمح بتخزين العملة الوطنية لاستخدام لاحق، وهي الميزة الأكثر عرضة للخسارة بفعل التضخّم من جهة، وتدهور سعر الصرف من جهة أخرى...

وعند افتقاد استقرار القدرة الشرائية للعملة الوطنية يصبح تلقائياً من الصعب الاستمرار في التسعير بها في سوق حرّة، وخصوصاً اذا كان معتمداً في شكل أساسي على الاستيراد، لتأمين حاجاته الاستهلاكية.. وفي المرحلة الثالثة وبغية تفادي تقلّبات سعر الصرف والسجالات حول التسعير وفق معدلاته، يصبح السوق ميالاً تلقائياً الى تفضيل الدفع بالعملة الأجنبية الأكثر تداولاً واستقراراً، وإجمالاً الدولار الأميركي... بذلك تفقد العملة الوطنية دورها الثلاثي الركائز...

فيما تشير الدولرة الكاملة إلى الاقتصادات التي تتخلّى عن عملتها الوطنية، وبالتالي، لا يعود من مبرّر لوجود مصرف مركزي فيها، يعني لا مرجعية مصرف مركزي للمصارف ولا مموّل أخير، لأنّ البلاد تصبح فاقدة للاستقلالية النقدية وتابعة نقدياً للبلاد التي تستخدم عملتها، فيسود فيها الدولار علامة حصرية للعملة.

وقد أظهرت مجمل الدراسات حول الدولرة منذ السبعينات والثمانينات، أنّ الدولرة في الاقتصادات النامية ترافقت مع عملية تفكّك نقدي، كان التضخم المفرط هو الشكل الأكثر شيوعاً. وتميل التحليلات الأخيرة إلى التركيز على قضية الدولرة الكاملة، والتي لا يتمّ تفسيرها على أنّها تمحو المخاوف المتعلقة بالتضخم المفرط.

وتتعارض الدولرة بحكم الواقع، أو غير الرسمية، مع الدولرة القانونية أو الرسمية.. إذ تتوافق الدولرة الواقعية مع الوضع الذي يستخدم فيه العملاء الاقتصاديون العملة الأجنبية، على رغم من عدم وجود غطاء قانوني. إنّه خيار عفوي يأتي من اختيار القطاع الخاص.

فيما تتميّز الدولرة الرسمية بحكم القانون، مع الوضع الذي يتمّ فيه الاعتراف رسميًا باستخدام العملات الأجنبية من قِبل السلطات.. إنّها دولرة مؤسسية تعكس اختيار السلطات العامة.

ولكن يُلاحظ عادة، أنّ معظم التحليلات لا تحترم هذا التمييز. هناك اتجاه يتمّ الخلط فيه عموماً بين الدولرة الجزئية والدولرة الواقعية والدولرة الكاملة مع الدولرة الرسمية.

من هناك، نصل إلى مجالين متميزين:
- الأول يتعلق بالدولرة الفعلية والجزئية، حيث يتمّ استيعاب هذه الأخيرة في عملية استبدال العملة الوطنية بعملة أجنبية واستخدام الاثنتين معاً في السوق. وهنالك نماذج عدة للاستبدال بأدوات مختلفة. فيما يركّز الثاني على الدولرة الرسمية والكاملة، التي تفتح مجالات واسعة من البحث.

الدولرة غير الرسمية تتوافق مع الدول التي يمتلك سكانها جزءًا كبيرًا من ثروتهم بالعملة الأجنبية. واجمالاً يتبلور ذلك من خلال معدّل دولرة الودائع في شكل أساسي، ولو في اغتياب الامتيازات القانونية للعملة الوطنية. وغالباً ما تتصل هذه الدولرة مع ارتفاع التضخم. كذلك، فإنّ المشكلات السياسية والحروب الأهلية هي من الأسباب الرئيسية المؤدية إلى الدولرة (لبنان خلال الثمانينات). فإما استبدال الأموال عند استخدام الدولار كوحدة حساب ووسيط في التبادل، أو استبدال الأصول عندما يشكّل الدولار مخزن القيمة.

هناك نوعان من الدولرة الرسمية يمكن تحديدهما من جانب واحد، عن طريق استبدال عملة وطنية بعملة أجنبية بحتة. وببساطة من خلال منح هذه الأخيرة سلطة تحرير غير محدودة في كل أنحاء البلاد، أو اختفاء العملة المحلية أو اختزالها بأدوار محدّدة (دفع الضرائب، رواتب القطاع العام، رسوم المعاملات الرسمية...)

في تعميق التمييز المزدوج بين: الدولار الجزئي والدولار الكامل من جهة؛ ومن ناحية أخرى، الدولرة بحكم الواقع والدولرة (الرسمية) القانونية، من المهم الإشارة إلى معيارين للتمييز:

المعيار الأول، يتعلّق بدرجة تغلغل معدل الدولرة في الممارسات النقدية للبلد المعني .فيما المعيار الثاني يتعلّق بدرجة إضفاء الطابع الرسمي أو المأسسة على دولرة الاقتصاد.

يؤدي الجمع بين معياري التمايز إلى أربعة أنظمة قياسية للدولرة.

ويُلاحظ أنّ الدولرة في لبنان أكثر تشابهًا مع الدولرة الجزئية والقانونية: التي تقابل المربع A2 في الجدول أعلاه. في نظام A2 ، تأخذ السلطات علماً بالممارسات الدولارية وتشرّع بعضها، مع الحفاظ على وحدة الحساب الوطنية والالتزام بدفع الضرائب في هذه الوحدة من الحساب، ولكن بالسماح بإنشاء من مصرف لبنان، غرفة مقاصة للشيكات بالدولار الأميركي.

من أبرز مفارقات سياسة النقد والقطع اللبنانية، أنّ الأسباب نفسها التي أدخلت الدولرة الى لبنان تدفع بها اليوم خارجاً!! التضخم الهائل وتدهور سعر الصرف وفقدان العملة الوطنية وظائفها من حيث التسعير والتبادل والادخار الذي يحافظ على القدرة الشرائية، فضلاً عن الدين العام وتدهور وضع المالية العامة وتراجع ميزان المدفوعات والطلب الزائد على الدولار الأميركي، التي أدّت في الثمانينات الى الهروب من تآكل القدرة الشرائية لليرة اللبنانية واختيار الدولار، وتقبلها حينها الجهاز المصرفي اللبناني... هي نفسها اليوم تتسبّب بموجة معاكسة، يحاول من خلالها النظام المصرفي فرض استخدام الليرة لا بل «لبننة» الدولار المودع لديها!

المصرف المركزي والمصارف اللبنانية تقبّلت في الثمانينات خيار القطاع الخاص اللبناني باعتماد الدولرة (خصوصاً الودائع) كخيار حرّ، ولو كان غير معلن رسمياً، الى جانب العملة الوطنية. واقتصادياً، كان من الطبيعي في ظلّ اعتماد الدولار بالتوازي مع الليرة اللبنانية، أن يختار مصرف لبنان سياسة ربط سعر الصرف، بغية المحافظة على استقرار سعر صرف العملة الوطنية إزاء العملة الأجنبية المستخدمة بالتوازي معها في السوق...

بعد أكثر من 22 عاماً على هذا «الستاتيكو»، وبعد أن تخطّت دولرة الودائع 76 % وتمدّدت الدولرة الى كل النظام المصرفي لتشكّل حصة الأسد من التسليفات وأكثر من ثلث الدين العام، ومع تدهور وضع المالية العامة وتدهور ميزان المدفوعات والموجودات الخارجية للجهاز المصرفي، وبالتالي ضعف احتياطي المصرف المركزي بالدولار، تقلّصت إمكانية استمرار تدخّل مصرف لبنان لبيع الدولار مقابل الطلب المُتزايد عليه في السوق... وقد انقلبت موازين الوضع مع تزايد معاناة لبنان منذ عام 2011 من عجز في ميزان المدفوعات... ما عدا العام 2016 الذي حاولت فيه «الهندسات المالية» تعزيز استقطاب الدولار وزيادة احتياطي المصرف المركزي وطلب زيادة رساميل المصارف، التي تزايد انكشافها بالدولار، إن كان ذلك تجاه الدولة عبر الاكتتاب بـ»اليوروبوند» أو تجاه المصرف المركزي عبر شراء شهادات الايداع منه بالدولار.

وإذ بدأ يُلاحَظ منذ عام 1993 فصاعداً، تنامي فجوة متزايدة بين ودائع العملات الأجنبية والموجودات الخارجية للنظام المصرفي، إلّا أنّ اشتداد عمقها برز منذ العام 2011 مع اتخاذ الموجودات منحى تدهورياً، فيما بقيت دولرة الودائع في ارتفاع، ولم تشفع فيها سياسة تثبيت سعر الصرف منذ العام 1997 التي كان يفترض أن تطمئن الناس الى استقرار سعر العملة الوطنية، وتشجعهم على اختيارها لودائعها.. يبدو أنّ الجمهور بقي يعتبر تدخّل المصرف المركزي بحكم التثبيت الدائم وليس الثبات الفعلي، مما جعل الجميع متمسكاً بودائعه بالدولار، على رغم من فارق معدّل الفائدة بينها وبين الودائع بالليرة، الأعلى طبعاً، بحكم المخاطرة التي تحملها نسبة الى الدولار كعملة دولية.. لا بل ترافق معدل دولرة الودائع المرتفع مع ارتفاع دولرة التسليفات المصرفية، وأكثر من ذلك دولرة جزء كبير من الدين العام، ما يجعل «الخروج من الدولرة» وفرض تحويل كل هذه العقود الى الليرة اللبنانية مسألة جداً معقّدة، وتحتاج هذا الكمّ المتضارب من دراسة الخسائر...

ووسط هذه التعقيدات في تشابك العناصر المؤثرة في الدولرة في لبنان، هل من جدول مقارنة بين الفوائد والتكاليف الناتجة من الدولرة وسبل الخروج منها لكل من الأفرقاء المعنيين؟

أي خصوصية للدولرة في لبنان؟ بين الدخول الحرّ والخروج الإجباري...

أي خصوصية للدولرة في لبنان؟ بين الدخول الحرّ والخروج الإجباري...
https://www.aljoumhouria.com/ar/news/542535/%D8%A7%D9%8A-%D8%AE%D8%B5%D9%88%D8%B5%D9%8A%D8%A9-%D9%84%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84%D8%B1%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D9%84%D8%A8%D9%86%D8%A7%D9%86-%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D8%AE%D9%88%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AE%D8%B1%D9%88%D8%AC-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AC%D8%A8%D8%A7%D8%B1%D9%8A?utm_source=editor&utm_medium=web&utm_campaign=listnews
Tuesday, 30-Jun-2020 06:30

في الثمانينات من القرن الماضي، اختار القطاع الخاص اللبناني الدولرة بحرّية، حفاظاً على قيمة المدخرات والقدرة الشرائية، بعد افتقاد الليرة وظائف النقد الأساسية مع التضخّم وتدهور سعر الصرف... ومنذ العام 2019 يُفرض على القطاع الخاص «الخروج من الدولرة»، أي العملية المعاكسة. ولكن، في ظلّ ظروف مشابهة تماماً للثمانينات، بين التضخّم وتدهور سعر الصرف، لا بل مع الدين العام المدولر بجزء كبير منه، بعد عجز الدولة عن التسديد وانغماس الجهاز المصرفي في تمويل عجزه عن إعادة الودائع المدولرة لأصحابها... بين التجربتين، ما هي الأنظمة القياسية للدولرة؟ أي منها ينطبق على لبنان؟ وما هي خصوصية الدخول في الدولرة ومحاولة الخروج منها، وسط مختلف التحدّيات المرافقة؟

إقتصادياً، يتمّ تصنيف الدولرة على أساس التمييز المزدوج بين «الدولرة الكاملة» و»الدولرة الجزئية» من جهة، و»الدولرة الرسمية بفعل القانون» و»الدولرة غير القانونية الناتجة من خيار حرّ للقطاع الخاص» من جهة أخرى.

الدولرة الجزئية تتميّز بظاهرة «التعدّدية النقدية»، وهي تتعلّق بالاقتصادات، حيث يتمّ تداول العملات الأجنبية جنبًا إلى جنب مع العملة المحلية. وفي هذه الحال يبقى للبلاد مصرف مركزي يطبع العملة الوطنية، فيما السوق يستخدم العملتين في آن معاً، كما هي الحال في لبنان، منذ أن إختار القطاع الخاص اللبناني في الثمانينات اللجوء الى دولرة جزئية ولو بنسبة مرتفعة...

أما خيار اللجوء الى الدولرة، فيكون عادة نتيجة تضخم هائل وانهيار لسعر صرف العملة الوطنية، يُسقطان من العملة الوطنية وظائفها الثلاث الأساسية:

أولاً، كوحدة حساب تسمح بتقييم كل منتج وتسعيره. ثانياً، كوسيط تجاري يسمح بتسديد الفواتير الناتجة من كل عملية تجارية. وثالثاً، كحافظة لقيمة النقد وقدرته الشرائية، ما يسمح بتخزين العملة الوطنية لاستخدام لاحق، وهي الميزة الأكثر عرضة للخسارة بفعل التضخّم من جهة، وتدهور سعر الصرف من جهة أخرى...

وعند افتقاد استقرار القدرة الشرائية للعملة الوطنية يصبح تلقائياً من الصعب الاستمرار في التسعير بها في سوق حرّة، وخصوصاً اذا كان معتمداً في شكل أساسي على الاستيراد، لتأمين حاجاته الاستهلاكية.. وفي المرحلة الثالثة وبغية تفادي تقلّبات سعر الصرف والسجالات حول التسعير وفق معدلاته، يصبح السوق ميالاً تلقائياً الى تفضيل الدفع بالعملة الأجنبية الأكثر تداولاً واستقراراً، وإجمالاً الدولار الأميركي... بذلك تفقد العملة الوطنية دورها الثلاثي الركائز...

فيما تشير الدولرة الكاملة إلى الاقتصادات التي تتخلّى عن عملتها الوطنية، وبالتالي، لا يعود من مبرّر لوجود مصرف مركزي فيها، يعني لا مرجعية مصرف مركزي للمصارف ولا مموّل أخير، لأنّ البلاد تصبح فاقدة للاستقلالية النقدية وتابعة نقدياً للبلاد التي تستخدم عملتها، فيسود فيها الدولار علامة حصرية للعملة.

وقد أظهرت مجمل الدراسات حول الدولرة منذ السبعينات والثمانينات، أنّ الدولرة في الاقتصادات النامية ترافقت مع عملية تفكّك نقدي، كان التضخم المفرط هو الشكل الأكثر شيوعاً. وتميل التحليلات الأخيرة إلى التركيز على قضية الدولرة الكاملة، والتي لا يتمّ تفسيرها على أنّها تمحو المخاوف المتعلقة بالتضخم المفرط.

وتتعارض الدولرة بحكم الواقع، أو غير الرسمية، مع الدولرة القانونية أو الرسمية.. إذ تتوافق الدولرة الواقعية مع الوضع الذي يستخدم فيه العملاء الاقتصاديون العملة الأجنبية، على رغم من عدم وجود غطاء قانوني. إنّه خيار عفوي يأتي من اختيار القطاع الخاص.

فيما تتميّز الدولرة الرسمية بحكم القانون، مع الوضع الذي يتمّ فيه الاعتراف رسميًا باستخدام العملات الأجنبية من قِبل السلطات.. إنّها دولرة مؤسسية تعكس اختيار السلطات العامة.

ولكن يُلاحظ عادة، أنّ معظم التحليلات لا تحترم هذا التمييز. هناك اتجاه يتمّ الخلط فيه عموماً بين الدولرة الجزئية والدولرة الواقعية والدولرة الكاملة مع الدولرة الرسمية.

من هناك، نصل إلى مجالين متميزين:
- الأول يتعلق بالدولرة الفعلية والجزئية، حيث يتمّ استيعاب هذه الأخيرة في عملية استبدال العملة الوطنية بعملة أجنبية واستخدام الاثنتين معاً في السوق. وهنالك نماذج عدة للاستبدال بأدوات مختلفة. فيما يركّز الثاني على الدولرة الرسمية والكاملة، التي تفتح مجالات واسعة من البحث.

الدولرة غير الرسمية تتوافق مع الدول التي يمتلك سكانها جزءًا كبيرًا من ثروتهم بالعملة الأجنبية. واجمالاً يتبلور ذلك من خلال معدّل دولرة الودائع في شكل أساسي، ولو في اغتياب الامتيازات القانونية للعملة الوطنية. وغالباً ما تتصل هذه الدولرة مع ارتفاع التضخم. كذلك، فإنّ المشكلات السياسية والحروب الأهلية هي من الأسباب الرئيسية المؤدية إلى الدولرة (لبنان خلال الثمانينات). فإما استبدال الأموال عند استخدام الدولار كوحدة حساب ووسيط في التبادل، أو استبدال الأصول عندما يشكّل الدولار مخزن القيمة.

هناك نوعان من الدولرة الرسمية يمكن تحديدهما من جانب واحد، عن طريق استبدال عملة وطنية بعملة أجنبية بحتة. وببساطة من خلال منح هذه الأخيرة سلطة تحرير غير محدودة في كل أنحاء البلاد، أو اختفاء العملة المحلية أو اختزالها بأدوار محدّدة (دفع الضرائب، رواتب القطاع العام، رسوم المعاملات الرسمية...)

في تعميق التمييز المزدوج بين: الدولار الجزئي والدولار الكامل من جهة؛ ومن ناحية أخرى، الدولرة بحكم الواقع والدولرة (الرسمية) القانونية، من المهم الإشارة إلى معيارين للتمييز:

المعيار الأول، يتعلّق بدرجة تغلغل معدل الدولرة في الممارسات النقدية للبلد المعني .فيما المعيار الثاني يتعلّق بدرجة إضفاء الطابع الرسمي أو المأسسة على دولرة الاقتصاد.

يؤدي الجمع بين معياري التمايز إلى أربعة أنظمة قياسية للدولرة.

ويُلاحظ أنّ الدولرة في لبنان أكثر تشابهًا مع الدولرة الجزئية والقانونية: التي تقابل المربع A2 في الجدول أعلاه. في نظام A2 ، تأخذ السلطات علماً بالممارسات الدولارية وتشرّع بعضها، مع الحفاظ على وحدة الحساب الوطنية والالتزام بدفع الضرائب في هذه الوحدة من الحساب، ولكن بالسماح بإنشاء من مصرف لبنان، غرفة مقاصة للشيكات بالدولار الأميركي.

من أبرز مفارقات سياسة النقد والقطع اللبنانية، أنّ الأسباب نفسها التي أدخلت الدولرة الى لبنان تدفع بها اليوم خارجاً!! التضخم الهائل وتدهور سعر الصرف وفقدان العملة الوطنية وظائفها من حيث التسعير والتبادل والادخار الذي يحافظ على القدرة الشرائية، فضلاً عن الدين العام وتدهور وضع المالية العامة وتراجع ميزان المدفوعات والطلب الزائد على الدولار الأميركي، التي أدّت في الثمانينات الى الهروب من تآكل القدرة الشرائية لليرة اللبنانية واختيار الدولار، وتقبلها حينها الجهاز المصرفي اللبناني... هي نفسها اليوم تتسبّب بموجة معاكسة، يحاول من خلالها النظام المصرفي فرض استخدام الليرة لا بل «لبننة» الدولار المودع لديها!

المصرف المركزي والمصارف اللبنانية تقبّلت في الثمانينات خيار القطاع الخاص اللبناني باعتماد الدولرة (خصوصاً الودائع) كخيار حرّ، ولو كان غير معلن رسمياً، الى جانب العملة الوطنية. واقتصادياً، كان من الطبيعي في ظلّ اعتماد الدولار بالتوازي مع الليرة اللبنانية، أن يختار مصرف لبنان سياسة ربط سعر الصرف، بغية المحافظة على استقرار سعر صرف العملة الوطنية إزاء العملة الأجنبية المستخدمة بالتوازي معها في السوق...

بعد أكثر من 22 عاماً على هذا «الستاتيكو»، وبعد أن تخطّت دولرة الودائع 76 % وتمدّدت الدولرة الى كل النظام المصرفي لتشكّل حصة الأسد من التسليفات وأكثر من ثلث الدين العام، ومع تدهور وضع المالية العامة وتدهور ميزان المدفوعات والموجودات الخارجية للجهاز المصرفي، وبالتالي ضعف احتياطي المصرف المركزي بالدولار، تقلّصت إمكانية استمرار تدخّل مصرف لبنان لبيع الدولار مقابل الطلب المُتزايد عليه في السوق... وقد انقلبت موازين الوضع مع تزايد معاناة لبنان منذ عام 2011 من عجز في ميزان المدفوعات... ما عدا العام 2016 الذي حاولت فيه «الهندسات المالية» تعزيز استقطاب الدولار وزيادة احتياطي المصرف المركزي وطلب زيادة رساميل المصارف، التي تزايد انكشافها بالدولار، إن كان ذلك تجاه الدولة عبر الاكتتاب بـ»اليوروبوند» أو تجاه المصرف المركزي عبر شراء شهادات الايداع منه بالدولار.

وإذ بدأ يُلاحَظ منذ عام 1993 فصاعداً، تنامي فجوة متزايدة بين ودائع العملات الأجنبية والموجودات الخارجية للنظام المصرفي، إلّا أنّ اشتداد عمقها برز منذ العام 2011 مع اتخاذ الموجودات منحى تدهورياً، فيما بقيت دولرة الودائع في ارتفاع، ولم تشفع فيها سياسة تثبيت سعر الصرف منذ العام 1997 التي كان يفترض أن تطمئن الناس الى استقرار سعر العملة الوطنية، وتشجعهم على اختيارها لودائعها.. يبدو أنّ الجمهور بقي يعتبر تدخّل المصرف المركزي بحكم التثبيت الدائم وليس الثبات الفعلي، مما جعل الجميع متمسكاً بودائعه بالدولار، على رغم من فارق معدّل الفائدة بينها وبين الودائع بالليرة، الأعلى طبعاً، بحكم المخاطرة التي تحملها نسبة الى الدولار كعملة دولية.. لا بل ترافق معدل دولرة الودائع المرتفع مع ارتفاع دولرة التسليفات المصرفية، وأكثر من ذلك دولرة جزء كبير من الدين العام، ما يجعل «الخروج من الدولرة» وفرض تحويل كل هذه العقود الى الليرة اللبنانية مسألة جداً معقّدة، وتحتاج هذا الكمّ المتضارب من دراسة الخسائر...

ووسط هذه التعقيدات في تشابك العناصر المؤثرة في الدولرة في لبنان، هل من جدول مقارنة بين الفوائد والتكاليف الناتجة من الدولرة وسبل الخروج منها لكل من الأفرقاء المعنيين؟